رجل وكلب يتفقدان أنقاض مبنى مدمر في هود هشارون في أعقاب هجوم صاروخي إيراني على إسرائيل_133804.jpg
*د.خالد الحاج
جاء الرد الإيراني المنتظر على إسرائيل، ردًا على اغتيال إسماعيل هنية في يوم تنصيب رئيس جمهورية الإسلامية الإيرانية، الرد من حيث الشكل والمضمون تجاوز التوقعات والسيناريوهات المتوقعة، جاء في سياق سياسي وعسكري إقليميًا وعالميًا معقد، تتداخل فيه عوامل الداخلية والخارجية على وقع التهديد بتحول الحرب في لبنان الى حرب شاملة. لفهم أعمق لهذه التطورات، علينا الغوص في التفاصيل التي شكلت الأرضية لهذا التصعيد غير المسبوق.
التحولات الداخلية في إيران
كانت البداية مع الانتخابات الإيرانية التي أفضت إلى فوز الرئيس الجديد بزكشيان بحوالي 17 مليون صوت. هذا الفوز جاء بعد مرحلة طويلة من الشد والجذب بين الإصلاحيين والمحافظين في البلاد، وخصوصاً بعد سقوط الطائرة الرئاسية اللغز التي كانت تقل الرئيس السابق إبراهيم رئيسي. وفاة رئيسي كانت نقطة تحول كبيرة في المشهد السياسي الإيراني، حيث فقد المحافظون أحد أبرز وجوههم، الرئيس الإيراني المرشح لخلافة الولي الفقيه، ووزير خارجيتها عبد الأمير لهيان الذي كان متوقع له دور كبير، هذه الخسارة للمحافظين أفسح المجال للإصلاحيين للسيطرة على السلطة.
الإصلاحيون بقيادة بزكشيان وبدعم من شخصيات بارزة مثل محمد جواد ظريف، الذي تم تعيينه كنائب للرئيس للشؤون الاستراتيجية، حاولوا منذ ترشحه للانتخابات الرئاسية بناء أجندة سياسية جديدة ترتكز على جذب الشباب والنساء، الفئات التي كانت في طليعة التحركات السياسية المطالبة بالتغيير في إيران. هذه الفئات لطالما كانت محل رهان الولايات المتحدة والقوى الأوروبية التي كانت ترى فيها مفتاحاً لتحقيق تغيير سياسي في البلاد، ونجحوا بذلك من خلال تحليل الرقم الانتخابي الذي حصل عليه، ويدرك القائد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي خامنئي هذا التفصيل الحساس.
استقالة ظريف وموقف الإصلاحيين
تعيين ظريف عراب الاتفاق النووي السابق في منصب استراتيجي بعد مسيرة طويلة في الدبلوماسية الإيرانية كان بمثابة إشارة إلى أن النظام الإيراني يسعى لإحداث تغيير ملموس في سياسته الخارجية التي ارتكزت على تغير الوضع الاقتصادي. إلا أن ظريف صدم الجميع بتقديم استقالته بعد عشرة أيام فقط من تعيينه. السبب المعلن كان اعتراضه على عدم منح الإصلاحيين، وخصوصاً الشباب والنساء والاقليات، مقاعد في الحكومة. هذا السبب كان ظاهرياً، فظريف هو احد ابرز اللاعبين في الحياة السياسية الإيرانية، لذلك استقالته كانت لها حسابات أخرى. وهو يدرك منذ البداية أن التوازنات التي تقوم عليها الحكومة الإيرانية.
الاعتراض الحقيقي لظريف كان على الرد الإيراني المتوقع على اغتيال هنية في طهران، حيث كان يرى أن هذا الرد سيزيد من تعقيد الوضع الإيراني، خصوصاً فيما يتعلق بمساعي الحكومة لإصلاح الاقتصاد وتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب. وهو الذي صرح سابقاً بأن الإيرانيين "لا يجب أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم"، وهي عبارة تعكس تياراً واسعاً داخل الإصلاحيين الذين يرون أن الأولوية يجب أن تكون لتحسين الوضع الداخلي في إيران خاصة الاقتصادي، بدلاً من الانخراط العميق في الصراعات الإقليمية. وهذا التيار اليوم يصل في بعض الأحيان إلى حد الدعوة لإقامة علاقات جيدة مع الغرب والولايات المتحدة، حتى لو كان ذلك على حساب التحالفات مع روسيا والتوجه شرقًا.
الحسابات الاقتصادية للرئيس بزكشيان
الرئيس بزكشيان أعلن أن إيران تواجه أزمة اقتصادية خانقة. وفي أول مقابلاته الإعلامية، صرح بأن إيران تحتاج إلى 100 مليار دولار ونمو اقتصادي بنسبة 8% لمنع الانهيار الاقتصادي. هذه التصريحات لم تكن مجرد تحذيرات، بل كانت رسائل موجهة إلى الداخل، مفادها أن إيران بحاجة ماسة لإعادة التفاوض مع الغرب ورفع العقوبات الاقتصادية الخانقة.
نجح الرئيس الإيراني في اقناع المرشد الأعلى علي خامنئي بضرورة تأجيل أي رد عسكري على اسرائيل، وذلك من أجل عدم تفاقم الوضع الداخلي وإحداث شرخ في المجتمع الإيراني خاصة الشباب منه الذي بدأ يفقد ثقته في قدرة النظام على تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي. خامنئي وافق على التأجيل مؤقتاً، لكن ذلك لم يكن حلاً دائماً، بل كان إجراءً مؤقتاً لتجنب تصاعد الأوضاع، وإعطاء فرصة للاصلاحيين لمحاولة رفع بعض العقوبات الاقتصادية.
فشل الدبلوماسية في الأمم المتحدة
كانت الفرصة مواتية للرئيس الإيراني وفريقه خاصة نائبه ظريف لمحاولة استدراج الأمريكيين والأوروبيين إلى طاولة المفاوضات. أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، حاول الوفد الإيراني استغلال كل الفرص المتاحة، المعلنة منها وغير المعلنة، لفتح قنوات مع الغرب. حتى أن الرئيس الإيراني لم يتردد في وصف الولايات المتحدة بأنها "دولة صديقة" خلال إحدى مقابلاته الإعلامية، في محاولة لإظهار نوايا حسنة تجاه الإدارة الأمريكية، وكررها في اكثر من مناسبة، وحتى انه التقى بشخصية تحمل الجنسية الاسرائيلية. ولكن الخلاصة كانت بأن هذه الجهود فشلت. والأسباب متعددة، لكن أبرزها كان الضغط العسكري الإسرائيلي على حماس وحزب الله، بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب والقراءة الإسرائيلية في الردود الإيرانية الضعيفة. إسرائيل كانت تستغل هذا الضعف لتعزيز استراتيجيتها العسكرية، وصولاً إلى مغامرة اغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله. هذا الفشل الإيراني في إعادة توازن الرعب إلى المعادلة مع إسرائيل كان واضحاً، وأدى إلى تصاعد الضغوط على النظام الإيراني من الداخل والخارج، وكانت السبب الرئيسي بخسارة محور المقاومة لسيدها.
القرار المفاجئ لخامنئي والرد الإيراني
بعد عودة الرئيس الإيراني من الأمم المتحدة وإبلاغه للمرشد الأعلى بفشل المحاولات الدبلوماسية، أخذ خامنئي زمام المبادرة بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة. بالتنسيق مع الحرس الثوري الإيراني، أمر خامنئي بتدعيم أكثر من 17 مركزاً عسكرياً ومراكز حساسة مرتبطة بالمشروع النووي بأسلحة دفاع جوي روسية. واعطى الضوء الأخضر بهجوم قاسي على اسرائيل دون العودة إلى الرئيس أو حتى إبلاغه بالتفاصيل.
قبل حوالي ثلاث ساعات من الهجوم، رصدت الولايات المتحدة الأمريكية استعدادات إيران لإطلاق صواريخ، وأبلغت إسرائيل. المفاجأة الكبرى كانت في تجاوز الصواريخ الإيرانية لكافة الدروع الدفاعية الإسرائيلية والأميركية ، بما في ذلك الأنظمة الدفاعية المتطورة التي كانت تعتمد عليها إسرائيل بشكل أساسي. تجاوز عدد الصواريخ 200، وكانت باغلبها من النوع الفرط صوتي الذي يصعب اعتراضه. للمرة الأولى، تتعرض إسرائيل لهذا الكم الهائل من الهجمات الصاروخية، مما أصاب المجتمع الإسرائيلي بصدمة كبيرة.
تداعيات الرد الإيراني على إسرائيل والغرب
الضربة الإيرانية كشفت عن تطور كبير في القدرة العسكرية الإيرانية، وخاصة في مجال الصواريخ الفرط صوتية التي أظهرت قدرة على تجاوز الأنظمة الدفاعية. هذا التطور يحمل تداعيات خطيرة على إسرائيل، حيث أن الفشل في اعتراض هذه الصواريخ يعني انهيار الثقة في الأنظمة الدفاعية الإسرائيلية، والتي كانت تُعد ركيزة أساسية في الأمن القومي الإسرائيلي. كما أن هذا الفشل يؤثر سلباً على قدرة إسرائيل على تسويق هذه الأنظمة لدول أخرى، وهو ما يمثل خسارة استراتيجية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الرد الإيراني بهذا الحجم يضع الولايات المتحدة في موقف صعب. الولايات المتحدة كانت تعتمد على أنظمتها الدفاعية لتوفير الحماية لحلفائها في المنطقة ، والاهم لمصالحها ولكن فشل هذه الأنظمة في التصدي للصواريخ الإيرانية يعيد النظر في جاهزية واشنطن للتعامل مع التصعيد في المنطقة على وقع حرب شاملة.
الخيارات المستقبلية: تصعيد أم تفاوض؟
المشهد الحالي في المنطقة يتأرجح بين خيارين رئيسيين. الخيار الأول هو التصعيد العسكري، حيث قد تختار إسرائيل الرد على إيران بقوة أكبر وقصف المفاعل النووية ومصانع الصواريخ، وهو ما قد يؤدي إلى توسيع دائرة الحرب لتشمل أطرافاً إقليمية ودولية. هذا السيناريو يحمل مخاطره، خاصة في ظل التوترات القائمة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين.
الخيار الثاني هو العودة إلى طاولة المفاوضات. هذا الخيار قد يبدو أكثر عقلانية، لكنه يتطلب تنازلات كبيرة من كلا الطرفين، وهو ما يصعب تحقيقه في ظل الظروف الحالية. وعلى هذا الوقع تنتظر الحرب في لبنان أسلوب تعامل الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل مع الرسالة الإيرانية. مع الاخذ بعين الاعتبار بالرسالة الثانية التي سيحملها حزب الله خلال أيام ردًا على اغتيال امينه العام.
*دكتوراه في التاريخ السياسي، متخصص في الشؤون الإيرانية.