النهار

الكلّ مسؤول عن "الحرقة" في تونس
ركوب البحر نحو أوروبا... طموح محفوف بالمخاطر. (أرشيف)
A+   A-

وجد التونسيون أنفسهم هذه الأيام أمام أسئلة صعبة بعد غرق سفينة في عرض جزيرة جربة كانت تقل ما يقارب الستين مهاجراً غير نظامي معظمهم من التونسيين.

غرق المركب قبل أن يبتعد عن سواحل جزيرة جربة في الجنوب التونسي بأكثر من خمسمئة متر، ومعه غرق 17 شخصاً ونجا 34.

بالطبع لا يشكّل غرق المركب حالة فريدة من نوعها، فالأرقام تتحدث عن غرق أكثر من مئة مركب تقل مهاجرين غير نظاميين حاولوا العبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط منذ بداية السنة.

وخلال الأيام القليلة التي تلت فاجعة جربة أنقذ حراس السواحل عشرات المهاجرين الذين انطلقوا من جزيرة قرقنة ومن بنزرت. ما لفت الانتباه في حادثة جربة وما تلاها هو وجود أطفال صغار وحتى رضع بين المسافرين الذين غرقوا أو تم إنقاذهم.

تساءل الكثيرون -خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي- كيف لأم ولأب أن يغامرا بحياة ابنهما القاصر أو ابنتهما الرضيعة ويصطحبانهما على متن قارب متهالك لا يتمتع بالمواصفات الدنيا التي قد تسمح له بأن يقطع مسافة تقارب 250 كيلومتراً من جربة إلى لمبادوزا.

تساءل آخرون إن كانت الامتيازات التي تجدها الأسرة التي برفقتها أطفال قصّر مبرراً كافياً لاصطحاب هؤلاء الأطفال في رحلة غير مأمونة العواقب. يتصرف الكثير من المهاجرين وكأن وجود الأطفال والمسنين وأصحاب الإعاقة برفقتهم بوليصة تأمين ضد الترحيل من البلاد الأوروبية التي يقصدونها.

عجّت المنصات الإلكترونية بالشتائم الموجهة للمهاجرين الذين اصطحبوا معهم أطفالاً رضّعاً بل شكّك البعض في أهليتهم لأن يوصفوا بالآباء والأمهات.

تشير إحصائيات المنتدى الاقتصادي والاجتماعي (منظمة غير حكومية) إلى ارتفاع عدد القاصرين والقاصرات المشاركين في عمليات الهجرة غير النظامية نحو إيطاليا من 629 فرداً سنة 2019 إلى نحو 4500 بتاريخ 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023.

ويوفر عشرات الألوف من التلاميذ المنقطعين عن التعليم بشكل مبكر كل عام خزاناً لا ينضب من الأطفال والمراهقين الراغبين في الهجرة غير الشرعية. ساهم ذلك في جعل الهجرة غير النظامية - "الحرقة " كما يسمونها في تونس وبلدان المغرب العربي - تتحول إلى مشروع عائلي.

ضمن هذا المشروع تتضافر جهود أفراد الأسرة لادخار المال الكافي لتسديد المبالغ التي يطلبها المهربون. ولما يشاء الابن أو البنت السفر لوحدهما يوفر لهما الأب والأم المبلغ الذي يحتاجانه لركوب البحر.

المثير للاستغراب أن هذه العائلات تتصرف في معظم الأحيان وكأن عبور البحر غير محفوف بالمخاطر. لا يحمل المهاجرون عادة سترة نجاة وكأن الوصول إلى أوروبا مضمون. الأكيد أنه من الضغوط التي يدفع بها المجتمع نحو الهجرة تنشأ حالة نفسية خاصة تنسي المهاجر غير النظامي الأخطار التي تتهدد حياته هو ومن يرافقه.

بالإضافة إلى ذلك يتمتع مشروع الهجرة غير النظامية بحاضنة اجتماعية ترعاه حتى ينطلق. في العائلة أو في الحي والقرية وخلال فترة الاستعداد، يتكتم الجميع عن الخطوات التي تسبق محاولة الإبحار. وبعد الانطلاق يبقى الكل في انتظار تأكيد وصول السفينة إلى وجهتها. ومثلما تظهر ذلك أشرطة الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي فإن القرى والأحياء تحتفل أحياناً في الشارع بوصول مهاجريها سالمين إلى وجهاتهم. وعند المآسي فقط تلتجئ الأسر للسلطة لمطالبتها بالبحث عن أفراد العائلة المفقودين.

ضغوطات المجتمع تفسر أيضاً انخراط المرأة المتزايد في الهجرة النظامية. إذ إنه بين 2019 و2023 ارتفع عدد النساء التونسيات اللاتي وصلن إلى إيطاليا من 72 إلى 1352. وأصبح هناك تفهّم لاضطرار المرأة إلى الهجرة اعتباراً لاشتراكها مع الرجل في الظروف المعيشية الصعبة. ويفاقم وضعها أحياناً غياب الزوج نفسه إذ يهاجر إلى الخارج بمفرده تاركاً زوجته وأبناءه وراءه.

تميل السردية الرسمية إلى اختزال مسؤولية مآسي الهجرة غير النظامية في دور الشبكات الإجرامية التي تكسب من تهريب البشر.

هناك بكل تأكيد شبكات منظمة تضم أعداداً كبيرة من المهربين والوسطاء يتكفلون بالحجوزات مباشرة أو عبر وسائل الاتصال الاجتماعي ويجهزون القوارب ويتسوغون الشقق المفروشة من أجل الإيواء الوقتي للمهاجرين ويوفرون السيارات لنقل هؤلاء إلى أماكن الإبحار. في حادثة جربة لوحدها تحدثت التقارير عن تورط 15 شخصاً على الأقل في تنظيم عملية التهريب.

ورغم الزجر والعقوبات - التي تطال المهربين والتي يمكن أن تصل إلى السجن مدة 15 عاماً - يبقى تنظيم رحلات الهجرة غير النظامية تجارة لا تبور، ما دامت تدرّ الربح الوفير على المهربين وما دام هناك طلب كبير عليها.

لكن استمرار ظاهرة الهجرة غير النظامية انعكاس لعدة عوامل تتجاوز المهربين. فهي مرآة لفشل الطبقة السياسية التي جاءت إلى السلطة في تونس بعد انتفاضات "الربيع العربي" واعدة بنموذج تنموي جديد يخلق أسباب العيش الكريم للجميع. غير أنها عوضاً عن ذلك عمّقت مظاهر الخلل التي ورثتها عمن سبقوها وجعلت البلاد طاردة لأهلها أكثر من ذي قبل، مع ارتفاع كلفة المعيشة واستمرار مشكلة البطالة وتفاقم النزوح من الأرياف وتواصل انقطاع الأطفال عن التعليم.

في الوقت نفسه زادت أوروبا في التضييق على الهجرة النظامية. وعندما يعلن رئيس الحكومة الفرنسي الجديد ميشال بارنييه أنه سوف يقلّص في عدد التأشيرات لفائدة بلدان شمال إفريقيا فهو يمهد السبيل أمام القوارب حتى تواصل رحلات العبور.

الكل مسؤول عن المأساة حتى وإن كانت لكل واحد شماعة يعلّق عليها المسؤولية.

 

اقرأ في النهار Premium