خلال هذا الأسبوع ظهرت أزمة جديدة في بيت حزب جبهة التحرير الوطني، تتمثل في الخلافات بين بعض قيادات هذا الحزب ولجنة الانضباط التي تدعوها إلى الامتثال والاستماع إليها، وبخلاف ذلك، فإن هذه القيادات سوف تتعرض لعقوبات جدية قد تؤدي إلى طردها من الحزب بصفة نهائية.
ويتعلق الأمر في الحقيقة بخمس قيادات ذات مواقع معتبرة ضمن الهيكل المركزي لحزب جبهة التحرير، وتتمثل في نائبين بالمجلس الوطني الشعبي وسيناتور بمجلس الأمة فضلاً عن عضوين من اللجنة المركزية.
وتوضح جهات مسؤولة في المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني أن سبب اندلاع هذه الأزمة في هذه الأيام، يعود إلى إساءة هؤلاء الخمسة إلى الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني عبد الكريم بن مبارك، فضلاً عن نشر هؤلاء معلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي يقال إنها غير صحيحة وتسيء بدورها إلى سمعة هذا الحزب.
والغريب في الأمر، أن هذه المعلومات المذكورة آنفاً تتميز بالغموض والعمومية، إذ لم تظهر إلى العلن فحوى الإساءة إلى الأمين العام بن مبارك، وتفاصيل المعلومات التي جرى تداولها على مستوى وسائط التواصل الاجتماعي، كما لم تُذكر أسماء المناهضين للأمين العام وأسلوبه في تسيير الحزب منذ اختياره على رأس حزب جبهة التحرير في يوم 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023.
وفي الحقيقة، فإن النزاعات والأزمات التي تطفو على السطح بين صفوف قيادات حزب جبهة التحرير الوطني ليست طارئة، بل هي قديمة تظهر باستمرار، وتؤكد كل مرة وبوضوح غياب الاستقرار داخل صفوفه المركزية بشكل خاص.
والحال، فإن فتح الملفات المتعلقة بركام هذه النزاعات والأزمات المحايثة للوجود السياسي لحزب جبهة التحرير، سواء أثناء انفراده بواجهة الحكم من عام 1962 إلى الفترة التي أقرت فيها التعددية الحزبية الشكلية في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد فصاعداً، تبرز أن الصراعات الداخلية التي ما فتئ يعرفها هذا الحزب هي نتاج الصراعات الشخصية أو الشللية على المناصب العليا على مستوى المحافظات والحكومات التنفيذية المتعاقبة وأجهزتها المتنفذة ، والبرلمان بغرفتيه ومجالس الدولة العليا، وبسبب تناقضات جوهرية حادة بين القيادات التي كانت اختارت عن سبق إصرار، تكريس تبعية هذا الحزب للسلطة الحاكمة وبين بعض العناصر الأخرى المناوئة لمثل هذا التوجه داخل هياكله المركزية أو عبر القسمات في البلديات والمحافظات (الولايات) والتي كانت ترفض بشكل محتشم هذه التبعية المطلقة.
في هذا السياق يُجمع الملاحظون السياسيون الجزائريون على أن التصدّعات التي ما فتئت تخلخل حزب جبهة التحرير الوطني وتقطع خيوط نسيجه السياسي هي بسبب عدة عوامل منها على سبيل المثال غياب الوحدة العقائدية لدى القيادات التي تتحكم في هياكله وتوجهاته، الأمر الذي أدى بمؤرخ جزائري بارز إلى نعت هذا الحزب بأنه فسيفساء من الانتماءات الأيدولوجية المتضاربة الذي يضمَ خليطاً متنافراً من التيارات الإسلامية الإخوانية والاشتراكية والرأسمالية والوطنية والتروتسكية والشيوعية وهلم جراً.
ففي المؤتمر الحادي عشر الذي انعقد في الفترة الممتدة من 11 إلى 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 في المركز الدولي للمؤتمرات عبد اللطيف رحال– الجزائر العاصمة، وتحت شعار "نتجدد ولا نتبدد" المعارض لقصيدة مشهورة لشاعر جزائري كان قد انتقد فيها بقوة سلوك توجهات هذا الحزب في عام 1983، وعد الأمين العام الجديد، عبد الكريم بن مبارك في الخطاب الذي ألقاه مباشرة بعد انتهاء أعمال المؤتمر بأن عهد التناقض الذي يمزق الشمل، وشبح لجان الانضباط التي تقوم بمعاقبة بعض القيادات والمناضلين داخل أروقة هذا الحزب، قد ولَى إلى الأبد.
ولكن ها هي الوقائع تثبت الآن أن حزب جبهة التحرير الوطني لا يزال يعاني من تركة غياب الوحدة العقائدية بين صفوفه، وعدم ممارسته خيار المعارضة ضمن تركيبة الأحزاب الجزائرية التي تكتفي غالباً بالظهور في مواسم الانتخابات ثم تتلاشى مثل ماء الثلج تحت ضربات الشمس الساطعة.
في هذا السياق بالذات يلاحظ عدد لا يستهان به من مناضلي وقيادات اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني أن علاج الأزمة الجديدة التي تتهدد وجوده كحزب سياسي هو فتح الحوار لحصر نقاط الاختلاف والتناقض ثم العمل معاً على وضع ركائز تدعم بناء الثقة ولمَ الشمل في إطار يجعل الحزب يلعب دوره الوطني على المستوى المركزي وفي الجزائر العميقة يقضي بإنجاز أبجديات مشروع تحديث الدولة التي تزدهر فيها الحريات والعدالة.