كانت النسبة المتدنية لمشاركة الشباب من أبرز النقاط التي استرعت الاهتمام خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تونس، والتي فاز فيها الرئيس قيس سعيّد بعهدة رئاسية ثانية.
ذكرت الأرقام الرسمية أن نسبة التصويت بالنسبة إلى الفئة العمرية ما بين 18 و35 سنة (التي تمثل ما يقارب الـ24 في المئة من الناخبين) كانت بحدود الـ6 في المئة فقط، مقابل 65 في المئة بالنسبة إلى مَن هم بين 36 و60 سنة، و29 في المئة بالنسبة إلى مَن أعمارهم تتجاوز الـ60 سنة.
لا تكفي لتفسير هذه النسبة المنخفضة الإشارة إلى أن هيئة الانتخابات قامت قبل الانتخابات الأخيرة باعتماد التسجيل الآلي لكل الناخبين الذين بلغوا 18 عاماً، بما رفع كثيراً من عدد الناخبين الشبان.
لطالما حيّر عزوف الشباب في تونس عن الانتخابات والسياسة متابعي الشأن التونسي. فهذه الظاهرة ليست حديثة، إذ أظهرت "الاستشارة الوطنية حول الشباب"، التي نظمتها السلطات سنة 2008 (أي قبل سنتين من سقوط نظام بن علي)، أن 83 في المئة من الشباب لا يهتمون بالسياسة، وأن 64 في المئة منهم ليسوا منخرطين في أية منظمات أهلية.
استرجع الشباب اهتمامه بالسياسة وجانباً من ثقته في السياسيين إثر الإطاحة بنظام بن علي. لكن الطبقة السياسية خيّبت آماله بعدما تاهت في الصراعات، وأهملت الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، مما جعله يبتعد مجدّداً عن الاقتراع، وعن الشأن العام.
وباستثناء وحيد تمثل بتصويته بنسبة تفوق الـ47 في المئة خلال الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، تفاقم عزوف الشباب عن الانتخابات والسياسة تدريجاً بعد 2011.
وأظهر استطلاع أجري سنة 2018 (أي بعد سبع سنوات من انطلاق "الانتقال الديمقراطي") أن 47 في المئة من الشباب التونسي يشعر بأنه غير معني بالحياة السياسية. كذلك أظهرت دراسة أجرتها مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية سنة 2021 أن 83 في المئة من الشباب والشابات التونسيين "لا يهتمون كثيراً بالسياسة، أو لا يهتمون بها على الإطلاق، ويرفضون التصويت والانخراط في الأحزاب السياسية".
لفتت ظاهرة عزوف الشباب عن السياسة اهتمام الباحثين التونسيين والأجانب بشكل متواصل باعتبارها عاملاً مهماً لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.
من أول الاستنتاجات أنّ الشباب التونسي لم يعد يعلّق آمالاً كبيرة على الحلول الجماعية، التي تلبّي حاجياته وحاجيات من هم من جيله. تظاهر واحتج في السابق بما فيه الكفاية من دون تحقيق أية نتيجة بما جعله يرى الحلّ فردياً.
ما يبعث على الانشغال هو أن هذا التوجه يعكس بجانب منه يأس الشباب من إمكان تحقيق التغيير الذي يطمح إليه عن طريق صناديق الاقتراع أو العمل السياسي. ومثل هذا التفكير يضرب الممارسة الديموقراطية في الصميم، ويغلق أبواب مساهمة الشباب في إصلاح أوضاع البلاد.
يعود ذلك إلى حدّ كبير إلى فشل النخب والأحزاب السياسية في استقطاب الأجيال الجديدة وإقناعها بأن لها دوراً يمكن أن تؤديه في الحياة العامة. فشلت هذه النخب في الإنصات إلى الشباب، وفي فسح المجال أمامه كي يعبّر بطريقته عن رؤاه المغايرة للرؤى السائدة.
كذلك فشلت النُّخب، في الحكم وفي المعارضة، في إقناع الشباب بأن لها القدرة على تغيير الواقع نحو الأفضل. وها هو يرى فشلها مجسّداً في واقعه المعيش، وفي أوضاعه والأوضاع المحيطة به.
وقد أظهر استطلاع أجراه البارومتر العربي سنة 2023 أن 11 في المئة فقط من الشباب في تونس مرتاحون للوضع الاقتصادي في بلادهم.
في حياته اليومية، لا يجد الشباب رفاهيته ولا راحته بسبب الخدمات العامة المتردية والمرافق المتدهورة، في الوقت الذي لا يفهم استمرار القيود البيروقراطية وغياب القرارات التي تستجيب لطموحاته.
وقد وجد في سرديات السلطة، بعد تموز (يوليو) 2021، المبنية على إبراز فساد الحكومات والنخب السياسية خلال العشرية التي تلت سنة 2011، وفي ترهل دور الأحزاب، مما زاد في زعزعة ثقته بالسياسة والسياسيين عامة.
وفي بحثه عن الحل الفردي، وجد الشباب ضالته في الهجرة إلى الخارج. وما تدفق الآلاف المؤلفة من المهندسين والأطباء الشبان من تونس نحو الغرب والشرق إلا خير دليل على ذلك.
ولجوء الشباب إلى خيار الهجرة ما هو إلا نتاج عقلية لديه تضع السقف الأدنى للتطلعات في مستوى أعلى وآجال أقصر من تلك التي كانت تقبل بها الأجيال السابقة.
وهناك نوع آخر من الهروب، بالإضافة إلى الهجرة، يتمثل بنزوع البعض من الشباب نحو حقبة من الماضي كثيراً ما اقترنت في ذهنه بالرفض والاحتجاجات.
فقد جاء في دراسة أجرتها مبادرة الإصلاح العربي (بالتعاون مع منظمات شريكة لها سنة 2023)، أن عدم الرضا عن الأوضاع الحالية تولد عنه لدى شريحة من الشباب التونسي "حنين" إلى فترة ما قبل 2011، في "نظرة مثالية تجسد التوق إلى قيم تبدو غائبة عن واقعهم الراهن، مثل المكانة الدولية والاستقرار الاقتصادي والأمن".
لا يمكن لتونس أن تبني حاضرها ومستقبلها من دون شبابها؛ لذا فهي تواجه حاجة ملحة إلى فهم أسباب الهوة التي تفصل بين الأجيال الصاعدة والشأن العام ،وذلك من أجل السعي لجسرها.
كذلك تحتاج إلى رأب الصدع، الذي تبرزه الفروقات العمرية في التصويت، بين أجيال تجاوزت سن الشباب، وتبدو متعلقة بالاستقرار والحفاظ على الحد الأدنى من المكتسبات، وجيل صاعد غير مستعد للتنازل عن أحلامه، ولو كان ذلك يعني الجلوس وقتياً على الربوة أو البحث عن تحقيق طموحاته خارج حدود البلاد.