أزمة الحدود في أفريقيا: المسارات الشائكة
يحرص منتدى أصيلة، منذ انطلاقه عام 1978، على طرح قضايا كبرى تهم الإقليمين العربي والأفريقي وباقي مناطق العالم. وتأتي دورته الخامسة والأربعون، التي انطلقت قبل أيام، وما تناقشه من مواضيع الساعة، لتؤكد ثبات خطه الفكري الذي يشكل هويته كفضاء مفتوح للتداول في القضايا الكبرى، على حد تعبير أمينه العام محمد بن عيسى.
لا يتسع المجال هنا للحديث عن عناوين الندوات الطلائعية التي احتضنتها أصيلة وأسماء الشخصيات التي مرت بها، لكني سأقتصر على الإشارة إلى ندوة المنتدى الأولى لهذا العام، التي اختير لها موضوع شائك هو “أزمة الحدود في أفريقيا: المسارات الشائكة”.
شكلت الحدود الموروثة عن الاستعمار في أفريقيا مرضاً مزمناً ساهم في ظهور أمراض كثيرة مثل نقص التنمية وسوء الحوكمة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
إن الأمر شديد التعقيد والتشعب ويقضّ مضجع الحكام والشعوب جراء ما يتضمنه من قدر كبير من الحساسية السياسية بفعل ارتباطه بسيادة الدول وهويتها، وأحقيتها في حماية واسترجاع وحدتها الترابية.
ومن يسبر غور الأسباب العديدة لأزمة الحدود، يستشف أنه لم تتم معالجتها إبانها بالحزم المطلوب على أساس قاعدة مبدأ الإنصاف المتوافق مع حقائق التاريخ والجغرافيا، ما جعل دولاً وأنظمة معينة تستفيد من مخلفات هذا الوضع لأغراض توسعية. والأمثلة على ذلك واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، والأدهى من ذلك أن تلك الأنظمة ظلت مصرة على تثبيت وضع هو من مخلفات الحقبة الاستعمارية بامتياز.
وهنا، لا يمكن نسيان عام 1964 باعتباره عاماً مفصلياً في تكريس وترسيخ الإرث الحدودي الاستعماري. ولا تزال قاهرة المُعِزّ شاهدة على ذلك، حيث احتضنت في ذلك العام مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية.
اعتمدت قمة القاهرة قراراً غير منصف، يقضي باعتماد الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية في أفريقيا، مع ضرورة الإشارة إلى أن المغرب والصومال تحفّظا بشأنها ، وما زالت تداعيات ذلك القرار تلقي بظلالها على القارة حتى يومنا هذا، إذ برزت توترات ونزاعات توسعية لدى أنظمة استغلت هذا القرار ورأت فيه ملاذها المنشود، لأنه يخوّل لها الاستفادة من أشياء ليس لها حق تاريخي فيها.
غاص منتدى أصيلة في نقاش هذا الانحراف الذي طال العديد من مناطق أفريقيا، وما نتج عن هذه المعضلة من نتائج وعواقب، محاولاً تقديم أجوبة عن إشكالية الحدود المعقدة.
ارتفعت أصوات تقول إن التغلب على هذا الوضع يحتاج إلى انتهاج مقاربة متبصرة في إطار أجواء الأخوة والتعاون، ومراعاة المصلحة المشتركة بعيداً من منطق القوة والتوسع.
ولئن شكلت مسألة الحدود في أفريقيا أحد التحديات الجيو-سياسية الكبيرة التي تؤثر على استقرار القارة، فإنه يجب ألا ننسى أن الحدود الأفريقية التي رُسمت خلال الحقبة الاستعمارية لم تراعِ القبائل أو الأعراق أو المجموعات الثقافية التي تعيش في المناطق المتاخمة. فهي حدود جرى تكريسها في مؤتمر برلين عام 1885، وبمقتضاه قسمت القوى الاستعمارية القارة، وقطعت أوصالها وفقاً لمصالحها، ما خلق دولاً ذات تركيبات سكانية متعددة ومعقدة وغير منسجمة، بل وغير قابلة لحياة مستقرة وآمنة.
إن النزاعات المستمرة التي حدثت بعد الاستقلال هي أحد الآثار الكبيرة لهذه الحدود الموروثة التي لم تأخذ في الاعتبار التوزيع العرقي أو اللغوي، وأشير هنا إلى النزاعات القائمة بين إثيوبيا وإريتريا، والسودان وجنوب السودان، ومالي والنيجر، وبين الكونغو ورواندا وأوغندا، واللائحة طويلة.
تعددت المسارات لحل مسألة الحدود في أفريقيا، من بينها اتفاقيات الحدود، إذ لجأ بعض الدول إلى اتفاقيات ثنائية لتسوية النزاعات الحدودية سلمياً، مثل الاتفاق الذي جرى بين نيجيريا والكاميرون حول شبه جزيرة باكاسي الغنية بالنفط والغاز، عقب صدور حكم محكمة العدل الدولية لصالح الكاميرون عام 2002، ورغم ذلك ما زالت التوترات قائمة.
هناك أيضاً الاتحاد الأفريقي الذي يواصل تبني موقف "احترام الحدود القائمة" كما هي عند الاستقلال، وهو موقف ورثه عن منظمة الوحدة الأفريقية.
هناك كذلك مسار المفاوضات الدبلوماسية التي تروم حل النزاعات الحدودية، وغالباً ما تلعب المنظمات الدولية دور الوسيط فيها.
أما آخر المسارات فيتمثل في التركيز على التكامل الإقليمي، بدل التركيز على إعادة ترسيم الحدود. وانطلاقاً من ذلك، تسعى العديد من الدول الأفريقية إلى تعزيز التكامل الإقليمي والتعاون عبر الحدود، كما هو الحال في تجمعات مثل "إيكواس" و"سادك" لتعزيز التجارة والتعاون الأمني.
لكن هذا التكامل الإقليمي لا يجد له موقعاً في شمال أفريقيا، إذ عطّل الخلاف المغربي- الجزائري في شأن نزاع الصحراء التكامل المغاربي، إضافة إلى مشاكل أخرى في المنطقة.
الشيء ذاته ينطبق على الوضع في القرن الأفريقي، الذي يعد نتيجة مباشرة للحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية. فعقب اندلاع الحرب بين إريتريا وإثيوبيا في عقد التسعينيات من القرن الماضي، وهي الحرب التي تسببت بخسائر كبيرة، جرى إبرام سلام هش بين البلدين. ذلك أنهما ما زالا حتى الآن يعانيان من جروح عميقة ناجمة عن الحرب الحدودية، وملف مدينة بادمي المتنازع عليها، إضافة إلى الصراع في منطقة تيغراي الإثيوبية. فالحرب التي اندلعت فيها عام 2020 أثرت على علاقات الدولتين، خاصة مع تورط إريتريا عسكرياً في الصراع، ما أضاف تعقيدات جديدة.
لا بدّ من التوقف أيضاً عند نزاع السودان وجنوب السودان الناتج عن كون الحدود التي رسمها الاستعمار البريطاني لم تأخذ في الاعتبار الفوارق الثقافية والعرقية بين شمال البلد وجنوبه، ما أدى إلى حرب أهلية طويلة الأمد بين الجانبين، وانتهت بانفصال جنوب السودان عام 2011. كما أن النزاع بشأن منطقة أبيي النفطية ما زال قائماً.
ويجب ألا ننسى النزاع بين مالي والنيجر؛ فالحدود بينهما تشهد توترات مستمرة، خصوصاً في مناطق الصحراء حيث تعيش قبائل الطوارق. تلك الحدود بدورها رُسمت من دون اعتبار لهذه القبائل التي تمتد بين البلدين.
إن هذه النماذج من النزاعات ليست سوى غيض من فيض. وتبقى الحقيقة المرة هي ما ذكره الدكتور الصادق الفقيه، الأمين العام لمنتدى الفكر العربي في عمان، حين قال في مداخلته إن القارة الأفريقية تتحدث بلسان غير لسانها، وتتحرك في حدود لم يكن لها شأن في رسمها، وهي حدود بين الدول وداخلها.