أصرّ نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، في كلمته الأخيرة، على أن يقدّم نفسه قائداً استراتيجيّاً يتعامل مع الحرب بموجب معادلات تكتيكية واضحة، ولهذا فهو أكثر في تقديم "سرديّته" لما يحصل بذكر خطوات الخطط ومراحل الحرب ومعادلات المواجهة.
وبعد حديثه عن الخطوات الثلاث التي وضعتها إسرائيل لخطّة حربها على لبنان، معتبراً أنّها فشلت في خطوتها الأولى لأنّ اغتيال قادة الحزب لم يؤثر على البنية التنظيمية والقدرات القيادية، تكلّم عن مراحل الحرب، فلفت إلى نهاية "مرحلة المساندة" في 17 أيلول (سبتمبر) وبداية "مرحلة الدفاع عن لبنان". وانتهى قاسم، في بنيان كلمته الاستراتيجية، إلى تحديد المعادلات، فأشار إلى أنّ أولاها كانت "معادلة الحافّة الأمامية"، وهي حقّقت أهدافها، "من خلال إبطاء تقدّم العدو وتكبيده خسائر فادحة يمتنع عن الإفصاح عنها"، أمّا المعادلة الثانية، وهي سوف تستمرّ حتّى تقبل إسرائيل وقف إطلاق النار، فاسمها "معادلة إيلام العدو"، وهي تقوم على استهداف مدنه الكبرى مثل تل أبيب وتدمير بعضها، مثل حيفا التي سوف تلاقي مصير كريات شمونة والمطلّة الحدوديتين.
في الواقع، لقد استعمل الشيخ قاسم هذه الأدبيات الاستراتيجية بهدف تمرير ما هو مطلوب من "حزب الله"، بأقلّ ضرر ممكن على صورته ومعنوياته، لأنّ كلمته التي تمّ بثّها، بعد ظهر الثلاثاء الأخير، أتت على خلفية "أنّه مطلوب منّا اتخاذ موقف" - كما قال - في إشارة ضمنية الى إصرار الوسطاء المحليين والدوليين، على وجوب أن يفصح الحزب، علناً وبوضوح، عن حقيقة ما يُضمره بخصوص مساعي وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية حصراً، أي من دون ربطها بوضع قطاع غزّة الذي له ترتيباته وتعقيداته الخاصّة، على أن يكون ذلك إيذاناً بفتح مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل للتوصّل إلى حلّ ديبلوماسيّ، يقوم على تنفيذ صارم للقرار 1701، وفق ما يصرّ عليه الجانب الفرنسيّ.
ولكن هل وُفّق نائب الأمين العام لـ"حزب الله" بمقاصده؟
بعد ترجمة كلمة قاسم إلى اللغتين الفرنسية والإنكليزية، وشرح مضامينها غير المعلنة من خلال القنوات المعتمدة، توافق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على "موعد هاتفي"، من أجل البحث في الملفّ اللبناني، في ضوء وضوح موقف "حزب الله". لكنّ النتائج جاءت مخيّبة للآمال. لم يهتمّ الطرف الإسرائيلّي بموافقة الحزب على "خارطة الطريق" المقترحة للتوصّل إلى حلّ دبلوماسيّ، بل ركّز على المعادلتين اللتين تمّ اعتمادهما. بالنسبة إلى نتنياهو، فإنّ ما قاله قاسم لا يتطابق والروح المفترضة لبناء "عصر آمن"، فـ"حزب الله" يسعى عملياً وراء هدنة من أجل إعادة تجميع قواه لشنّ "حرب إزالة إسرائيل" بالتعاون مع إيران وأذرعها في المنطقة، ويريد أن يستفيد من وقف إطلاق النار، ليصوّر نفسه منتصراً، على أساس أنّه منع الجيش الإسرائيليّ من الوصول إلى أهدافه في جنوب لبنان، وأجبر المجتمع الإسرائيلّي الذي أرعبته "معادلة إيلام العدو" على اللهاث وراء وقف إطلاق النار.
بالنسبة إلى نتنياهو، وفق ما أوصله إلى ماكرون الغاضب منه، لا بدّ من "مفاوضات تحت النار"، لأنّها، إن صدقت الوقائع معادلتي "حزب الله" فسوف تُضعف موقف إسرائيل، وإن "كذبت" سوف تدفع هذا الحزب إلى التسليم بما يجب أن تكون عليه الحال: ضمان إخلاء منطقة جنوب نهر الليطاني من هذا الحزب إلى الأبد!
قد تكون المعادلتان اللتان تحدّث عنهما قاسم صحيحتين، ولكنّهما في الواقع لا تصلحان لإقناع أصحاب القرار بأنّهما تشكّلان استراتيجية ناجحة، فـ"معادلة الحافّة الأمامية" فانية، لأنّها يستحيل أن تصمد، إذ إنّ القدرات التي يملكها الجيش الإسرائيليّ، كفيلة بإفشالها، وإن تأخّر زمن تحقيقها، والدليل على ذلك أنّ الشهود الدوليين على وصول الوحدات الإسرائيلية إلى أهداف مرحلتها الأولى كثر، ففي راميا، مثلاً، تشهد "اليونيفيل" على ذلك، وفي غيرها تشهد وسائل الإعلام العالمية التي ندّد بها "حزب الله"، ناهيك عن الأدلّة التي يقدّمها الجيش الإسرائيلي نفسه ويصعب دحضها.
أمّا بخصوص "معادلة إيلام العدو"، فإنّها إن كان لها جولة مع "حزب الله" فلها آلاف الجولات مع الجيش الإسرائيليّ الذي لا يدمّر البنية التحتية لـ"المقاومة الإسلامية" فحسب بل يستهدف أيضاً البنية الحياتية لبيئته الحاضنة، ويطارد كلّ من له صلة بها، في أيّ بقعة كان في لبنان، إلى درجة أنّ اللبنانيين أصبحوا يخشون على حياتهم من وجود هؤلاء بينهم.
وعليه، فإنّ قاسم قد يكون أرضى كبرياء حزبه ولكنّه فشل في فتح الطريق أمام وقف المجزرة!