تتفاخر بعض الدول اليوم (الولايات المتحدة الأميركية، كندا، أستراليا، وبعض كبريات المدن الأوروبية مثل لندن وباريس وبرلين) وتتباهى على الصعيد العالمي بأنها دول كوزموبوليتانية. وهي صفة تُطلق على تلك الدول التي تستوعب وتحتضن تنوعاً ثقافياً واجتماعياً واسعاً، لتتحول إلى ما يشبه البوتقة، تذوب فيها ثقافات وأعراق وجنسيات عديدة ومختلفة، وتشكل معاً مجتمعاً متنوعاً ومتعدد الأوجه، لكنه يعمل ككلّ متكامل غني ومتآلف ومتناغم.
وكلمة "كوزموبوليتانية" التي تُمكن ترجمتها إلى "العالمية أو الأممية"، مشتقة في الأصل من الكلمة اليونانية "kosmopolites" والتي تعني "مواطن العالم"، فهي تتكون من جزءين، "كوزموس kosmos" وتعني الكون أو العالم، و"بوليتس polites" التي تعني المواطن أو المدني. كما يعود أصلها كفكرة أيضاً إلى بعض الفلاسفة اليونانيين القدماء الذين كانوا يؤمنون بأن انتماء الإنسان للعالم كله وليس لدولة معينة دون غيرها.
تطورت هذه الفكرة على مرِّ العصور لتشمل جوانب سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة؛ فعندما نقول اليوم إن دولة ما هي كوزموبوليتانية، فهذا يعني أنها تتسم بالتنوع الثقافي الناتج من وجود مجموعة واسعة من الثقافات والعادات والتقاليد التي تُثري الحياة الاجتماعية وتتعايش معاً سلمياً؛ وتتسم أيضاً بالانفتاح على العالم، إذ ترحب بالوافدين والمهاجرين من مختلف أنحائه، وتوفر لهم فرصاً متساوية أساسها المواطنة والكفاءة؛ وتتحلى بالتسامح الديني فتحترم جميع الأديان والمعتقدات، وتضمن حرية الممارسة الدينية. ورغم التنوع الثقافي الذي تمتاز به الدولة الكوزموبوليتانية، ثمة هناك هوية مشتركة تجمع بين أفراد المجتمع، وعادة ما تُبنى على القيم والمبادئ المشتركة؛ ليسود فيها بطبيعة الحال التبادل الثقافي ودعم الإبداع والابتكار، حيث تشجع هذه الدول على تبادل الأفكار والخبرات بين مختلف الثقافات، وتعزز تفاعلها البنَّاء مع بعضها البعض، ما يسهم في التقدم والازدهار والتنمية الاقتصادية والبشرية.
وفي حدود هذا التعريف وهذه الصورة، تبدو معظم الدول العربية اليوم أبعد ما يكون عن هذه التسمية، إذ على العكس تقريباً من كل ما سبق، تعاني دولنا تفكّكاً كبيراً في الهوية الوطنية لمصلحة الهويات الإثنية والمذهبية وغيرها من الهويات ما دون الوطنية، وبالتالي انحداراً شديداً بالشعور وبالانتماء والمواطنة، ناتجٍاً بالعموم من تاريخ طويل من الحروب والانقسامات، وتركات الاستعمار وما تبعه من دكتاتوريات، تُضاف إليها الصراعات والأطماع الإقليمية التي لمَّا تزل تعبث بواقع دولنا وببناها وبمنظومة علاقاتها الداخلية والخارجية. كل هذا جعل قيام التناغم بين أفراد المجتمع أنفسهم أقرب إلى الحلم، وغلبت العصبية القبلية والطائفية على العلاقات الاجتماعية، وساد الفكر المتشدد، وزادت الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء، ما انعكس بدوره مزيداً من الصراعات، وتراجعاً في التنمية والاستثمارات الأجنبية، وفشلاً في التعامل مع التحديات العالمية، وتدهوراً في العلاقات البينية والدولية، ليؤدي بطبيعة الحال إلى التفاقم في الانغلاق والخوف من "الآخر" باعتباره تهديداً للهوية الوطنية أو الدينية!
لكن، هل كانت هذه حال العرب دائماً؟
كما يعرف الجميع، الجواب هو "لا" طبعاً، فقد مرَّ زمن على الدولة العربية الإسلامية كانت فيه "عالمية" بكل ما للكلمة من معنى، من ناحية الامتداد والتأثير واحتواء الجميع، واستيراد المعارف والخبرات وتصديرها، واستقطاب العقول العالمة أو الطالِبة للعلم، ولدينا قائمة تطول من العلماء والمكتشفين والمبتكرين والفنانين والمفكرين والأدباء، وكل ما أنتجوه وأثروا به حضارتهم والحضارة العالمية، ليشهدوا على ذلك ويثبتوه.
تنتشر اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات ومقاطع تحت عناوين من قبيل "ماذا قدم العرب للبشرية؟" أو "اختراعات عربية نسبها الغرب لأنفسهم" أو "إسهامات العرب التي شكّلت العالم المعاصر" وما إلى ذلك من العناوين المماثلة، وتأتي التعليقات بالعموم ضمن نمطين، الأول النوستالجي المتخصص بالوقوف على الأطلال والتحسُّر على الماضي المُشرق الذي لن يتكرر بحسب رأيه، أما لماذا حكم بأنه لن يتكرر؟ أو هل بإمكانه هو القيام به لإعادة إحياء شيء من هذا الماضي المجيد؟ فهي أمور لا تعنيه ولا يحاول حتى التفكير بها.
أما النمط الثاني من التعليقات، وهو الذي دفعني حقيقةً إلى كتابة هذه المقالة، فهو الذي يقول بأن معظم هؤلاء ليسوا عرباً، وبالتالي يرفض الخلط بين الحضارة العربية والحضارة الإسلامية، ويرى في عدم التفريق بينهما موقفاً شوفينياً متعالياً... ربما يكون هؤلاء على حق، لكنه حقٌّ يراد به باطل.
أصحاب هذا الرأي يستشهدون دائماً بعبارة شهيرة لابن خلدون يقول فيها: "من الغريب الواقع أن حمَلَة العلم في الملَّة الإسلامية أكثرهم العجم، وليس في العرب حملة علم لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبه فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي".
وليس هذا الكلام إلا جزءاً يسيراً من النقد الذي وجّهه ابن خلدون للعرب في "مقدمته" الشهيرة، وغيضاً من فيض الصفات السلبية التي وسمهم بها وألحقها بهم، ولأن ابن خلدون من أشهر العلماء عند العرب، لا بل في العالم كله، قد ينظر كثيرون إلى آرائه على أنها حقائق ناجزة، وتصريحاته على أنها بدقة أفكاره وعلومه نفسها، مع أنها هنا تحتمل الخطأ مثلما تحتمل الصواب، ولستُ هنا في صدد التوسع في تحليل خطاب ابن خلدون وأسبابه ودوافعه التي قد تكون ناتجة من تجارب شخصية، ذاتية غير موضوعية، أو من ضغوط سياسية ما، وكلنا يعرف أن ابن خلدون حاول دائماً كسب ودِّ حكام البربر، وهل من طريقة أسهل لذلك من ذمِّ العرب وهو منهم!
عالم عربي وعالم أعجمي!
لا حضارة عربية خالصة بعد الإسلام، وهذا أمر صحيح ولا غبار عليه، لكن هذا الارتباط ثنائي الجهة أيضاً، إذ لا يمكن الحديث عن حضارة إسلامية ليست العربية جزءاً لا يتجزأ منها، إذ إن انتشار الإسلام كدين عالمي يعتمد اللغة العربية من ناحية أنها لغة القرآن الكريم ولغة الدولة الإسلامية ولسان التواصل الرسمي فيها، عوامل أدت إلى تحوّل هذه اللغة بحد ذاتها إلى لغة عالمية، مثلما هي حال الإنكليزية اليوم. بالإضافة إلى أن معظم المصادر العلمية والمعرفية كانت متاحة باللغة العربية، سواء كُتبت بها أو تُرجمت إليها، ما دفع العلماء غير العرب إلى تعلُّمها واستخدامها في كتاباتهم ليكونوا بدورهم جزءاً من المكتبة العربية - نسبة للغة لا إلى القومية - ومرجعاً يستطيع أكبر عدد من الناس الاستفادة منه والاطلاع عليه.
وأودُّ هنا أن أطرح سؤالاً بسيطاً: إذا كان أحد العلماء العرب اليوم، يكتب ويؤلف وربما يفكر باللغة الإنكليزية، وينشر بها كذلك، فهل يمكن القول إن ما ينتجه من معرفة هي معرفة عربية، لمجرد أنّ من أنتجها يحمل جنسية دولة عربية؟ هل يمكن لمن يجيد العربية دون الإنكليزية قراءتها؟ هل ترجمتها مثلاً تُعدُّ كافية، بخاصة أن معظم المصطلحات العلمية الجديدة ليس هناك ما يوازيها أو يعطي معناها باللغة العربية؟
وعليه، عندما نقول إن هذا العالم من الفرس أو الترك أو الكرد أو الأفغان أو السريان أو البربر أو أي من القوميات الأخرى التي انصهرت في بوتقة الدولة العربية الإسلامية "الأممية أو الكوزموبوليتانية"، فإننا لا نجانب الصواب، لكننا بذلك ننسب لأصولهم حقوقاً ليست لها من منتجهم المعرفي والعلمي وغيره. ودعوني أقدّم مثالاً معاصراً آخر قد يبدو مستهجناً وقد لا يعجب البعض: أشهر العلماء العرب في القرن الماضي هو بلا شك أحمد زويل المصري، فهو العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل في أحد فروع العلوم وهو الكيمياء. لكن، إلى أي حد يمكن القول فعلاً إن المعرفة التي أنتجها هذا العالِم الفذ هي معرفة عربية؟ هل استفادت منها دولته الأم مثلما استفادت منها الولايات المتحدة التي احتضنته ومنحته مواطنيتها ومكنته من الاستمرار في العمل والإنجاز، ومن ثمَّ بنت على إنتاجه وراكمت وطوّرت؟ لا أظن ذلك...
ولنأخذ وكالة ناسا اليوم مثلاً، فيها من ذوي الأصول الهندية والصينية والكورية وغيرها من القوميات ما قد يفوق عدد الأميركيين الغربيين أنفسهم، لكن هل يمكن القول إنها مؤسسة آسيوية مثلاً، وهل يمكن للعاملين فيها نسب ما ينتجونه هناك من معارف وعلوم واكتشافات واختراعات إلى بلدانهم الأم؟ أيضاً... لا أظن ذلك!
إذاً، مثلما أن المعرفة – مهما كان شكلها – هي مُلك لمن ينتجها، هي كذلك، وربما أكثر، مُلك لمن يطورها ويراكم فيها ويستثمرها ويبني عليها، ولذلك أجد أن التأكيد الدائم على الفصل بين العلماء المسلمين، على أساس كونهم عرباً أو عجماً هو أمر تبسيطي يغمط الحضارة العربية الإسلامية حقها، ويؤدي إلى أن يدعي البعض من خلاله ما ليس لهم. ولست هنا أحاول بالمقابل أن أنسب للعرب ما هو للمسلمين من قوميات أخرى، وكذلك من يخرج اليوم ليتحدث عن اختراعات عربية أو إسلامية نسبها الغرب لنفسه، هو مدَّعٍ أيضاً. ففي كثير من الأحيان، قد يكون العالِم المسلم هو من أرسى أسس اكتشاف أو اختراع ما، ثم جاء عالم غربي وطبّقه فيُنسب إليه... وفي النهاية، التاريخ يكتبه الأقوى.
ورغم ذلك، لا بدَّ من الاعتراف بأن الغرب لا يبخس العلماء العرب ولا المسلمين حقهم، بل كثيراً ما يُكرَّمون، ويُسلَّط الضوء على منجزاتهم أكاديمياً دائماً. بالمقابل، نحن غالباً من نبخس علماءنا حقهم ونغفل أدوارهم، وفي بعض الأحيان نتهمهم بالكفر أو الزندقة، ويأتي التركيز عليهم - كما أشرت قبل قليل - كشكل من النوستالجيا والبكاء على الأطلال أو التظلم والقول بأن الغرب سرق حضارتنا، والأمر ليس بهذه البساطة على الإطلاق.
وهذا يعيدنا إلى الواقع العربي اليوم، فالدولة العربية الإسلامية التليدة التي استطاعت يوماً أن تنجب علماء ومفكرين مثل ابن النفيس والإدريسي وجابر بن حيان وابن باجة وابن طفيل وابن زهر والزهراوي والكندي والفراهيدي وابن رشد وابن عربي... وتحتضن علماء وفقهاء مثل سيبويه وابن سينا والحسن بن الهيثم والفارابي وأبي بكر الرازي والبخاري والغزالي والخوارزمي وغيرهم. واعذروني إذا أخطأت في نسب أحدهم، فالتداخلات كثيرة والمراجع قد تتضارب في بعض الأحيان. تلك الدولة العربية الإسلامية التي أنجبت عقولاً واستقطبت أخرى، وترجمت العلوم وأنتجتها وطورتها وصدَّرتها، فإن وَرَثَتها اليوم؛ وأعني معظم الدول العربية كي لا أقع في التعميم، عاجزة حتى عن رعاية الخطوات الأولى لطلبة العلم والمفكرين والباحثين، وفي معظم المجالات!
واقع العلوم في العالم العربي
لا يخفى على أحد أن التراجع والضعف وكثرة التحديات والمعوقات هي الملامح الأبرز لواقع العلوم والمعارف في عالمنا العربي اليوم، فالاستثمار في البحث والتطوير لا ينال إلا نسبة ضئيلة من ميزانيات معظم الدول العربية، ما يؤثر سلباً على الإنتاج العلمي، ويدفع الكثير من الباحثين العرب إلى الدول المتقدمة بحثاً عن فرص عمل أفضل وأجور أعلى. ناهيك عن ضعف الارتباط بين البحث العلمي والقطاع الصناعي وغيره من القطاعات التطبيقية المولّدة للربح، ما يقلل من تأثيره على التنمية الاقتصادية، ويُضاف إلى ذلك كله ضعف البنى التحتية الضرورية للبحث العلمي والتطوير والإبداع والابتكار، مقابل غلبة بعض العوامل الثقافية والمجتمعية التي تدفع باهتمام الشباب العربي بعيداً عن العلوم والبحث العلمي.
ولا أقول هذا من منطلق تشاؤمي على الإطلاق، إذ لا بد لكل تحدٍّ من أن يحمل في طياته فرصة وربما مجموعة من الفرص، وقد أدركت دولة عربية عدة ذلك، وبدأت الاستثمار في الممكن، ووضع الخطط القريبة والبعيدة المدى، وفي أكثر العلوم والتقانات حداثة، مثل الذكاء الاصطناعي الذي قد أخصص مقالة منفردة للحديث عنه عربياً.
ويجب ألا تكون الخطط كبيرة والخطوات معقدة، إذ يمكن لبعض الإجراءات البسيطة أن تحسن واقع بلداننا بمستويات عالية. فمثلاً، تُمكن الاستفادة من الثورة الرقمية عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتقنيات البيانات الكبيرة التي من شأنها أن تسهم في تسريع وتيرة البحث العلمي. كذلك، لا بدَّ من التركيز على البحوث التطبيقية التي تُمكن الاستفادة منها لتحقيق الربح ولحل المشكلات التي تواجه المجتمعات العربية، مثل المياه والطاقة والزراعة، وفي هذا السياق، لا بدَّ من بناء شراكات بين القطاعين الأكاديمي والخاص يمكنها أن تسهم في تحويل الأبحاث العلمية إلى منتجات ذات مردود.
وإذا كان تطوير البحث العلمي في العالم العربي يتطلب جهوداً متضافرة من الحكومات والمؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص والمجتمع المدني على حدٍّ سواء، فإنه يتطلب قبل هذه وتلك توافر عقلية منفتحة على الآخر وعلومه وفنونه وآدابه، أي ذات طبيعة "كوزموبوليتانية" إن جاز التعبير، لتستفيد من الحضارات الأخرى ولا تنبذها وترفضها بكليتها، وهذا وإن بدا أمراً صعباً، لكنه ممكن وليس مستحيلاً. فحتى في العصر الذهبي للدولة الإسلامية، والذي نرسمه في خيالنا وكأنه اليوتوبيا المنشودة التي تسود فيها المعرفة والإبداع والتسامح والرخاء والسلام وكل ما إلى ذلك.. لم يخلُ ذلك العصر من التحديات الكبرى والأزمات والصراعات والانقسامات والتوتر والأطماع الخارجية والغزوات في غير مكان من الدولة الإسلامية الممتدة الشاسعة.
نعم، كانت لدينا في عمق تاريخنا دولة عربية إسلامية تزدهر بالعلم والمعرفة، وتحتضن بين جنباتها أناساً من كل حدب وصوب. كانت كوزموبوليتانية بامتياز، لا تعرف حدوداً للعِرق أو الدين، ففتحت أبوابها لكل من يبحث عن الحقيقة والمعرفة، في تلك الحقبة الذهبية. وكانت المكتبات تضجّ بالحكمة، والمدارس تزدحم بالعلماء، والأسواق تعجّ بالبضائع من كل أنحاء العالم. فكنا مركزاً للعلم والابتكار، ومصدر إلهام للإنسانية جمعاء.
واليوم، بعد مرور قرون، ما زلتُ أرى أن بذور تلك الحضارة الكوزموبوليتانية كامنة في أعماقنا، وما زال بإمكاننا أن نستعيد مجدها، وأن نجعل من عالمنا العربي منارة للعلم والمعرفة مرة أخرى، فبإمكاننا أن نفتح أبوابنا للعقول النيرة، وأن نشجع الابتكار والإبداع، وأن نبني مجتمعات قائمة على التسامح والاحترام المتبادل.
نحن بحاجة إلى أن نستلهم من تاريخنا لا أن نرثيه ونقف على أطلاله، وأن نستثمر في شبابنا لا أن نُسلمهم لعطالة النوستالجيا وجلد الذات، هكذا نجعل من عالمنا العربي عالماً أكثر إشراقاً، وأكثر ازدهاراً، وأكثر انفتاحاً على العالم.