مهجرة فلسطينية في غزة تغسل طفلها في العراء (أ ف ب)
أما وقد نجح ترامب، فإنني لن أحدثكم عن العواصف التي ستطيح بجيل صدئ من قادة الحزب الديموقراطي، ولن أحدثكم عن العواصف داخل الحزب الجمهوري ومؤسسات الدولة تحضيراً لاحتضان ترامب وتوجيهه، أو استعداداً للتصدي له. لن أحدثكم عن تحولات خطوط الصراع الجديدة في أوروبا. لن أحدثكم عن الصين وبحرها والصراع المحتدم في الباسيفيك.
سأكتب عن كل ذلك لاحقاً!
لكني، وفي ظل التنافس الشديد بين مراكز القوى الأميركية لاحتضان ترامب وسياسته، وفي ظل ما سينجم عن ذلك من تحولات في أولويات الإدارة الجديدة، أزعم أن بإمكاننا تلمس الملامح والمحددات الممكنة لكل ما يقال.
لذلك سأحدثكم اليوم عما سيجلبه ذاك التحول الترامبي من أخطار وما سيتيحه من فرص لدول منطقتنا العاثرة. وإذ يتدحرج إقليمنا بعفوية مدهشة نحو مزيد من الخراب، يسكر البعض بوهم سلام عابر، لن يكون بعده سلام.
فلقد نجح ترامب جزئياً بفضل حملة المسلمين الأميركيين ضد هاريس، عقاباً لموقف إدارة بايدن من غزة. وتحدث ترامب عن أنه سينهي الحروب في الإقليم، فيما تتردد جملة من التصريحات المنسوبة إليه بأن "أراضي دولة إسرائيل صغيرة جداً وينبغي توسيعها"!
سبق لترامب أن اعتقد بإمكان تحييد كوريا الشمالية، لكن بعد شهر من لقائه التاريخي كيم جونغ أون، سدد له كيم صفعة لا تنسى، إذ أطلقت كوريا الشمالية صاروخاً حديثاً عابراً للقارات، واقترب بشكل خطر من بعض الجزر الأميركية في الباسيفيك وهدد أراضيها القارية. بعدئذ ابتلع ترامب لسانه، ونسي أمر كوريا الشمالية.
وبعيداً عن النوايا الطيبة لترامب، فلنذهب نحو المعطيات الثابتة.
الثابت الأول أنه بعدما ربطت إسرائيل لعقود مصيرها الاستراتيجي بتوافقات تكتيكية مع إيران عبر الوساطة الروسية، فجرت أذرع إيران مصداقية هذه التوافقات من دون رجعة. والآن تمكنت إسرائيل من كسر حربة "حزب الله" لينهار الخندق الأول لبنيان الردع الإقليمي الإيراني، وحرمت إيران من ميزة الإنكار، لذلك لا شك في أن إسرائيل لن تتوانى عن استكمال انجازاتها التكتيكية المهمة، وتحويلها الى معطيات تكرسها على المدى الطويل.
لذلك، أزعم، أن إسرائيل والولايات المتحدة والغرب بأسره، لن تتخلى عن استكمال تصفية قدرات "حزب الله" وباقي أذرع إيران، ليقتصر دور هذه الأذرع على البلطجة على شعوب الإقليم ودوله. مع ما سيحمله ذلك من صراعات وخراب ودماء!
لكن ترامب، برؤيته الطيبة هذه، لم يفته الحديث عن رغبته بضم المزيد من دول الخليج إلى منتدى الاتفاقات الإبراهيمية. لكني في المقابل، لا يساورني أي شك بجدية العملية الديبلوماسية الدولية التي أطلقتها المملكة العربية السعودية لدعم حل الدولتين، وأعتقد بشكل راسخ بثبات هذا الموقف. لذلك أجد مستحيلاً أن يحل ترامب المعضلة الا بعد استحقاقات واضحة.
فكيف سيحلها؟ كيف يتحقق السلام الترامبي ودونه تناقضات وموازين قوى ومصالح هائلة؟
تكمن المعضلة الأولى في عدم امتلاك الحكومة اليمينية لنتنياهو، أي رؤية لليوم التالي، بل يبدو أنها لا تريد، لا في غزة ولا في لبنان. وسيكون من المستحيل أن تنخرط أي دولة عربية لا في تنظيف سيرة نتنياهو، ولا في عملية التعافي في غزة ولبنان، قبل حصول تبدل جوهري في السياسة الإسرائيلية يضع عربة حل الدولتين على مسارها.
فكم من الزمن سيتطلب الأمر للإطاحة بنتنياهو، ومن ثم صوغ دور عربي لإدارة اليوم التالي، بعد المجيء بحكومة إسرائيلية جديدة؟
ثانياً: ثمة حقيقتان مركزيتان عند التفكير في انفراج حقيقي في الإقليم.
أولهما أن إيران بعد إلغاء الاتفاق النووي ورفع الرقابة عنها، صارت تقف فعلاً على العتبة النووية. وأي تفاوض الآن حول الموضوع سيدور حول إحجامها عن تذخير القنبلة لا أكثر ولا أقل.
الحقيقة الثانية ان ليس في مقدور إسرائيل منفردة أن تلحق ضرراً استراتيجياً بالبرنامج النووي الإيراني ما لم تقدم لها الولايات المتحدة مساعدة فعالة. فالبرنامج النووي موزع على ما لا يقل عن ثمانية عشر موقعاً، لكل منها توأم تقني بديل الخ. وأي ضربة من إسرائيل للبرنامج النووي ستشعل المنطقة وتورط أميركا من دون أن يلحق أي تأخير ملموس في البرنامج. وإيران تهدد بذلك بوضوح!
وبعد، فلقد سعى نتنياهو منذ 2010 لجر الولايات المتحدة لتفعل مع إيران ما فعلته في العراق. ثمة شكوك جدية في انه لا يزال يطمح في توريطها مباشرة ضد إيران. لكن، ترامب والمؤسسة العسكرية الأميركية ليسا مستعدين لذلك بأي شكل من الأشكال.
وبعد، سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن إيران ستقبل بانكسار ماحق لردعها أمام إسرائيل، لتصير حمامة سلام. والأغلب أنها ستندفع في اتجاه تحالف مصيري أعمق مع روسيا والصين، لتعود المنطقة من جديد مكسر عصا لصراع دولي يؤبد منطق "الحرب ما بين الحروب" في الإقليم ويؤبد تفكك دولها، في حين تكتفي الدول المتدخلة بحروب صغيرة، تعزز دورها، وتكسبها قوة الوسيط المتحكم بخيوط الإقليم ومصالحه.
وفي هذا السياق، لعلي أرجح، أن يعمل ترامب على تفويض روسيا بهذا الدور.
ثم ماذا عن تركيا التي أثبتت، كما لم يسبق في أي وقت مضى، أهمية دورها الاستراتيجي الحيوي في الخاصرة الجنوبية للحلف الأطلسي، بل ولأوروبا ذاتها. لا شك لدي في أنها تدرك حاجة الجميع لها، وستعمل موضوعياً لتكريس المزيد والمزيد من المكاسب الاستراتيجية.
لذلك أزعم أن ترامب لن يتمكن من فرض سلامه بجرة قلم. فسلام ترامب يتطلب على الأقل تغييراً عميقاً في إسرائيل، وتغييراً في لبنان وسوريا وإيران الخ... أي في الإقليم بأسره. فكيف ذلك؟ بل سينجم عن تلفيق أي سلام عابر في الإقليم، إشعال مزيد من الصراعات.
أخشى أنه، بعد أن يتعلم ترامب حقائق الإقليم من جديد، سيدير ظهره له، كما فعل مع كيم جونغ أون، ولعله يكلف بوتين إدارة المسرح، ليفتح الباب من جديد لسلام ما بعده سلام!
لكن، في الشرق الأوسط يصبح حتى هذا الأمر المرجح مستحيلاً. فما عادت إسرائيل تركن للعبة "الأذرع" و"قص العشب" ولا إيران مستعدة للتخلي عن ردعها. إن هي إلا أضغاث أحلام في ليلة صيف.
ليبقى السؤال في هذه اللحظة الفارقة، ماذا عن مبادرة تقوم بها دول العمود الاستراتيجي العربي؟
من دونها سيبقى أي سلام في الإقليم، سلاماً ما بعده سلام، المرة بعد المرة.
كل ذلك فيما يصعد اسم نائب الرئيس، فانس، وهو يحمل أجندة مختلفة بشكل لافت.