عبد الرحمن أياس
في الأشهر الأخيرة، شهدت أسعار العملات الرقمية قفزة غير مسبوقة جعلت القيمة السوقية الإجمالية تتجاوز حاجز الثلاثة تريليونات دولار، وهو رقم قياسي جديد يعكس تغيراً جوهرياً في نظرة المستثمرين إلى هذه الأصول. لكن ما الذي أدى إلى هذا الارتفاع الكبير؟ وهل يمكن لهذه الموجة التصاعدية أن تستمر في المستقبل؟ تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة فحصاً عميقاً للعوامل السياسية والاقتصادية التي ساهمت في هذه الظاهرة، مع تركيز على الدور الذي تؤديه العملات الرقمية في النظام المالي العالمي الحديث.
من أبرز العوامل التي ساهمت في الارتفاع الحالي فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024. كان ترامب، المعروف بتوجهاته الداعمة للتكنولوجيا والابتكار، قد عبّر أمام مؤتمر "بيتكوين 2024" عن رؤيته المتعلقة بإدخال البيتكوين ضمن "احتياطي استراتيجي" أميركي، يشبه احتياطي الذهب. هذا التصريح عزّز ثقة المستثمرين بإمكانية تقليل القيود التنظيمية المفروضة على العملات الرقمية، ولاسيما في ظل انتخاب عدد من المشرعين المؤيدين للعملات الرقمية في الكونغرس الأميركي. هذه التغيرات السياسية أزالت بعضاً من الشكوك التي كانت تحيط بمستقبل العملات الرقمية في أكبر اقتصاد في العالم.
لكن الأثر لم يقتصر على السياسة فقط. شهدت السوق أيضاً تدفقات مالية ضخمة إلى صناديق البيتكوين الفورية القابلة للتداول في البورصات (spot Bitcoin exchange-traded fund)، التي جمعت أكثر من 4 مليارات دولار من الاستثمارات الجديدة منذ إعلان نتائج الانتخابات. لا ريب في أن هذه التدفقات تعكس تغيراً في نظرة المؤسسات المالية الكبرى التي كانت تتجنب العملات الرقمية سابقاً بسبب المخاوف من تقلبات الأسعار وعدم وضوح التنظيمات. الآن، ومع انفتاح البيئة السياسية والتنظيمية، أصبحت هذه المؤسسات أكثر استعداداً لدخول السوق، ما يساهم في تعزيز الزخم التصاعدي.
عامل آخر لا يقل أهمية هو السياسات النقدية العالمية. خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أخيراً معدلات الفائدة بمقدار 0.5 في المئة، ما أدى إلى زيادة السيولة في الأسواق المالية ودفع المستثمرين إلى البحث عن أصول ذات عوائد أعلى. وأصبحت العملات الرقمية، التي تتميز بإمكانيات نموها العالية، وجهة جذابة لتلك السيولة. إلى جانب ذلك، يساهم استقرار السياسات النقدية في بلدان أخرى مثل اليابان في خلق بيئة أكثر ملاءمة للاستثمار في الأصول الرقمية.
الأثر المباشر لهذه العوامل كلها كان واضحاً في أداء العملات الرقمية الرئيسية. البيتكوين، العملة الرقمية الأكثر شهرة، تجاوزت حاجز 93 ألف دولار، محققة أرقاماً قياسية جديدة مع توقعات بوصولها إلى 100 ألف دولار قبل نهاية العام. الإيثيريوم، ثاني أكبر عملة رقمية على صعيد القيمة السوقية، شهدت أيضاً نمواً كبيراً بنسبة 35 في المئة خلال الأسبوع الماضي، ما يعكس الطلب المتزايد على التطبيقات اللامركزية والعقود الذكية. حتى العملات البديلة مثل الدوجكوين استفادت من هذا الزخم، إذ قفزت بنسبة 140 في المئة مدفوعة بدعم شخصيات مثل إيلون ماسك.
ومع ذلك، يبقى السؤال: هل سيستمر هذا الاتجاه التصاعدي؟ الإجابة تتوقف على مجموعة من العوامل. أولاً، هناك الزخم السياسي، إذ من المتوقع أن يؤدي تخفيف القيود التنظيمية في الولايات المتحدة إلى جذب مزيد من الاستثمارات المؤسسية إلى هذه السوق، ما سيؤدي إلى استقرار أكبر فيها. ثانياً، هناك النمو المتواصل في استخدامات سلسلة الكتل (blockchain) والتطبيقات المرتبطة بها، مثل الرموز غير القابلة للاستبدال (non-fungible tokens) وترميز الأصول الواقعية (tokenizing real-world assets)، والتي تضيف قيمة إضافية إلى العملات الرقمية. ثالثاً، تعزّز شهية المستثمرين التوقعات الإيجابية الخاصة بسعر البيتكوين، التي يرى بعض المحللين أنها قد تصل إلى 120 ألف دولار أو أكثر في السنوات المقبلة.
لكن هذا لا يعني أن الطريق خالية من العقبات. السوق الرقمية معروفة بتقلباتها الحادة، وقد يؤدي الارتفاع السريع للأسعار إلى موجات من جني الأرباح، ما يسبّب تراجعاً مؤقتاً في السوق. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال بعض الأسواق الدولية مترددة في تبني العملات الرقمية في شكل كامل، ما يخلق نوعاً من عدم اليقين حول مستقبل التنظيم العالمي لهذه الأصول. وهناك أيضاً مخاوف من انعكاسات التغيرات الاقتصادية العالمية، مثل الركود المحتمل أو تشديد السياسات النقدية، على شهية المستثمرين للمخاطرة.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية