إشعال الحرب أكثر سهولةً من إنهائها أو من مجرّد وقف إطلاق النار. كلّ الأطراف تجد نفسها أسيرة التعقيدات التي أوجدتها قبل الحرب وأثناءها والآن في محاولة وضع حدٍّ لها. إسرائيل ذهبت الى أقصى العنف والوحشية تحت شعار عدم تكرار الهجمات عليها، لكنها تعمل على إدامة احتلالها قطاع غزّة وتتأهّب لتكريس احتلالها الضفة الغربية بضمّها. فهل أن تعمّد حال الاضطهاد الاستبدادي للشعب الفلسطيني، وإطاحة كل مشاريع التسوية السلمية، وتحدّي الشرعية الدولية (بما فيها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية)، تشكّل سعياً الى سلام في الشرق الأوسط أم تأسيساً لصراعات دائمة؟
شنّت "حماس" هجوم "طوفان الأقصى" بسيناريو فاق المتخيَّل عسكرياً، لكنها لم تتخيّل ردّاً إسرائيلياً يحوّل قطاع غزّة الى ركام ويمارس ضد أهله كل أنواع العقاب الجماعي، بما في ذلك من قتل وتجويع وتشريد، وصولاً الى إبادة جماعية تتأكّد معالمها يوماً بعد يوم. فالحرب بالمعنى العسكري انتهت منذ شهور عديدة، وكل ما تبعها ولا يزال أصبح تطبيقاً لـ"الإبادة"، بسبب تعذّر الاتفاق على وقف الأعمال العدائية وإطلاق الرهائن، لأن إسرائيل تريد "استسلاماً" وقبولاً بالاحتلال، ولأن "حماس" تريد البقاء في حكم القطاع حتى لو دخلت على مضض في "شراكةٍ" ما مع السلطة الفلسطينية.
"حزب إيران/ حزب الله" تصوّر سجالاً منضبطاً لمساندة غزّة ورتّب خططه على أساس عدم الانزلاق إلى حرب واسعة، لكن قادته لم يشأوا الاعتراف على مدى عام كامل بما يحصل فعلاً في غزّة واستبعدوا كلّياً استنساخه في لبنان، لاعتقادهم بأن لدى "الحزب" قوة وفائض قوة يمكن أن يشكلا "ردعاً" لإسرائيل. لكن فاتهم وفات إيران التي تحرّكهم أن يتنبّهوا لعمق الاختراق الإسرائيلي لصفوف "الحزب"، وعندما اكتشفوه كان الوقت قد فات على امكان "فك الارتباط" مع غزّة وقبول "العروض الديبلوماسية" الأميركية والفرنسية، وأصبح قبول شروط وقف اطلاق النار بمثابة "استسلام"، فيما أصبح رفضها بمثابة استدعاء لمزيد من التدمير في الجنوب والبقاع والضاحية وفي قلب بيروت. وكما في حال "حماس" كذلك يريد "الحزب" أن يخرج من الحرب ويبقى حاكماً ومهيمناً على لبنان.
راهنت "حماس" و"الحزب" على أن ترفد "ساحات المقاومة" معركتهما وتغيّر معادلاتها لكنها حاولت ولم تفلح، وراهنا على أن تنجح إيران في تجنيبهما المصائر المأسوية التي عصفت بهما لكن إيران نفسها وقعت في مأزق أمني واستراتيجي لم تكن تتوقّعه. فهي خرّبت أربع دول عربية وزرعت فيها ميليشيات لتُحكم السيطرة عليها وتضمن بقاء الخطر "بعيداً عن طهران"، لكن "حماس" و"الحزب" لم يعودا كما كانا قبل عام، ولم تعد إيران واثقة بإمكان الحفاظ على المستوى نفسه من النفوذ في سوريا حيث بات متعذّراً إيجاد أماكن لسكن قادة "الحرس الثوري" وميليشياته، أما في العراق فتنشغل الحكومة حالياً بالخوف من تداعيات ضربات اسرائيلية مبرمجة لفصائل في "الحشد الشعبي". في الأثناء تركّز طهران على أولوياتها وعلى مصالح لم تمكّنها الحرب من تحصيل سوى القليل منها قبل عودة دونالد ترامب إلى الحكم، أما الوكلاء فتأتي مصالحهم في مراتب ثانوية، وقد لا تأتي أبداً.
لا تزال إسرائيل- نتنياهو مصرّة على تحقيق أهدافها من حربيها في غزّة ولبنان، ومن حروبها على "الجبهات السبع" كما تدّعي. لكن حتى داعميها الأميركيين والأوروبيين غير قادرين على تحديد "أهدافها"، إذ أنهم يتفقون معها على تحدّي إيران وضرب القدرات العسكرية لميليشياتها، غير أنهم لا يتماهون مع رغبة نتنياهو في إطالة الحرب ليبقى في السلطة وينجو بفساده الشخصي من المحاكمة والمحاسبة، ولا مع أحلام توراتية صهيونية لسموتريتش وبن غفير باستيطان كل فلسطين واستعمار شعبها. كما أن هؤلاء الداعمين لا يستطيعون تجاهل الحال التي بلغتها إسرائيل من احتقار كل المؤسسات الدولية وقوانينها وكل القيم والمبادئ التي يدّعيها الغرب. لم تحصل إسرائيل حتى الآن إلا على الدمار الذي أحدثته بالقنابل الخارقة الأميركية والأسلحة الغربية، وهذا الدمار لا يمنحها "شرعية" القبول والاندماج في المنطقة ولا يعدها بسلام واستقرار لم تنجح يوماً في صنعهما، فهي تبقى دولة احتلال مطلوب منها أن تزيل هذا الاحتلال لا أن تُرغم من تحتلّ أرضهم على "الاستسلام". لم تستطع أن تصطنع "إدارة" لقطاع غزّة، لأنها تريد "عصابات" في خدمتها تسرق المساعدات الإنسانية وتتربّح منها. ولم تستطع أن تتعايش مع سلطة فلسطينية لا تشهر السلاح ضدّها، وتستمر في تحدّي العالم الذي يطالب بدولة فلسطينية يعتبرها عنواناً للسلام. كل ذلك لا يؤهلها لأن تغيّر وجه الشرق الأوسط، بل يُفترض أولاً وأخيراً أن تغيّر وجهها.