المستشار الألماني أولاف شولتس
الاتصال الهاتفي الذي أجراه المستشار الألماني أولاف شولتس بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجمعة في 15 تشرين الثاني (نوفمبر)؛ كان حدثاً جديداً، فهو الأول بينهما منذ ما يزيد على عامين، وقد استمرَّ ساعة كاملة، ورافقته دهشة أوكرانية وأوروبية واضحة، رغم أن شولتس كان قد اتصل بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قبل محادثة بوتين، لكن زيلينسكي لم يكُن مرتاحاً إلى البادرة الألمانية الجديدة، واعتبرها تشجيعاً للعدوان وستقوي موقف روسيا على الأرض، كما في أي مباحثات سلمية قادمة.
المبادرة الألمانية أتت قبل استخدام روسيا صاروخ "أوريشينك" العملاق ضد مصنع في دينيبرو وسط أوكرانيا، وهي لم تأتِ من فراغ، فآخر استطلاعات الرأي التي نشرت في برلين تُشير الى تقدُّم مؤيدي إعادة العلاقات مع روسيا الى ما يقارب 60 في المئة، وهؤلاء يؤيدون إنهاء الحرب في أوكرانيا. كما أن شعبية أحزاب الائتلاف الحكومي الحالي الذي يرأسه شولتس تراجعت، مع تسجيل تحسُّن واضح لمصلحة التركيبة التي كانت تقودها المستشارة السابقة انغيلا ميركل، بقيادة الحزب الديموقراطي المسيحي. ولجوء المستشار شولتس إلى الدعوة إلى إنتخابات برلمانية مُبكرة في 23 شباط(فبراير) القادم، بينما موعدها الدستوري العادي كان مقرراً في 25 /12/2025؛ يؤكد صحة هذه المعطيات.
وقد يكون العامل الأهم الذي دفع شولتس إلى هذه الخطوة تجاه روسيا؛ خوفه – كما غالبية الأوروبيين – من الرؤى السياسية الجديدة التي ترسمها الإدارة الأميركية القادمة برئاسة دونالد ترامب، ولا يُخفى على أحد كون الرئيس ترامب يرغب في إنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية، وهو لا يتعاطف مع حلفائه الأوروبيين، ويطالبهم بتحمُّل كامل الأعباء المالية التي تفرضها حماية القارةَّ، والقادة الأوروبيون الذين تجاوبوا على مضض مع طلب الرئيس جو بايدن بالسماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ بعيدة المدى ضد أهداف داخل روسيا يتوجسون من توجهات ترامب التي لا تتضمن عاطفة أميركية كافية تجاه القارة الحليفة.
ألمانيا هي الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة الأميركية من حيث ترتيب التقديمات المالية والعسكرية إلى أوكرانيا، وقد أرهقت هذه الحرب الاقتصاد الألماني من جوانب عديدة، فهي إضافةً للمساعدات الكبيرة التي تقدمها لكييف؛ استوعبت العدد الأكبر من النازحين الأوكرانيين، وخسرت مبالغ طائلة جراء ارتفاع قيمة وارداتها من النفط والغاز، بعد فرض العقوبات على الصادرات الروسية التي كانت تصل إليها بأسعار أرخص، كما أن شركاتها هي المتضرِّر الأول من تفجير خط "نور ستريم - 2" الذي كان ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر بحر البلطيق، وعلى هذه الشركات الألمانية ديون طائلة جراء بنائها للخط الذي زادت تكاليفه عن 11 مليار يورو، ولم تتمكن من استيفاء قيمة هذه الاستثمارات بعد.
ووفقاً لبيان صادر عن الحكومة الألمانية؛ فقد حثَّ المستشار شولتس الرئيس بوتين على إيقاف الحرب لأنها تدمِّر مقومات البلدين وتُرهق أوروبا، وطالبه بسحب قواته من الأراضي الأوكرانية التي دخلتها بعد 20 شباط (فبراير) 2022. أما البيان الصادر عن الكرملين فقد أشار إلى أن الرئيس بوتين أكد لشولتس أن الحل يجب أن يأخذ بالاعتبار "الواقع الجديد على الأرض" ومعالجة أسباب النزاع، والمقصود بطبيعة الحال عدم تحويل أوكرانيا مصدر تهديد للأمن القومي لروسيا. وأكد أن روسيا لم ترفض في أي يوم مساعي الوصول إلى حل دبلوماسي، ولا تزال منفتحة على المفاوضات، بينما كييف هي التي أوقفت الحوار (وفق ما جاء في بيان الكرملين).
ويقول المتابعون المقيمون في برلين إن شولتس يحاول الاستفادة من المرحلة الانتقالية التي تفصل عن 20 كانون الثاني (يناير) 2025 تاريخ تسلم الرئيس ترامب للسلطة في واشنطن، لتوليف حلول لمشكلة أوكرانيا، بما يجنِّب بلاده والأوروبيين ابتزازاً مؤكداً في المستقبل، وغالبية قادة الإتحاد يوافقونه على هذا التوجُّه، بمن فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي لم يخف رغبة القارة بأن يكون لها مشروع دفاعي خاص، بحيث لا تعتمد على التحالفات الخارجية بهذا الشأن، وهو يقصد "الحماية الأميركية" بطبيعة الحال.
ألمانيا كانت قد دخلت في سباق الحرب، وهي أعادت فرض التجنيد الإجباري على الشباب، وهذا الأمر كان متوقفاً منذ ما بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، كما زادت من اعتماداتها الدفاعية بما يتجاوز 2 في المئة، وهو ما يفيض عما حددته قمة حلف شمالي الأطلسي التي عقدت في تموز (يوليو) 2024 في واشنطن. وقد لحظت موازنة عام 2025 مبلغ 72,3 مليار يورو للإنفاق في مجال الأمن والدفاع، بعد أن كانت 53 ملياراً، ويتوقع أن تصبح بحدود 80 مليار اً عام 2028. وهذه الزيادات ستستهلك النمو الذي حصل أيام ولاية المستشارة ميركل وساهمت فيه القوة العاملة للمهاجرين الجُدد الذين سببوا لميركل حملة شعواء ضدها من قبل القوميين المتشددين في حينها، أدت إلى خسارة حزبها في انتخابات العام 2021.
الولايات المتحدة الأميركية دشَّنت قاعدة عسكرية دائمة في ريدزيكوفو في بولندا، وهي لا تبعد أكثر من 165 كلم عن الحدود الروسية، وقادرة على إطلاق صواريخ استراتيجية، وهو ما يعتبر مؤشراً مقلقاً، وهي القاعدة الأميركية الثانية بهذا الحجم في أوروبا بعد قاعدة رومانيا التي دشنتها عام 2016.
تحاول ألمانيا مع حلفائها الأوروبيين إعادة مسكّ زمام المبادرة، وبرلين لا تستطيع إخفاء كونها الدولة الأكثر تأثُراً بما يجري في أوكرانيا، وخطوة شولتس الأخيرة ليست خبراً عادياً.