لا يستطيع عاقل أن يتجاهل الحضارة الفارسية في التاريخ، ولا يتجاهل مساهمات الفرس والأقوام الأخرى في تطور الحضارة الإسلامية، كما لا يستطيع عاقل أن يأخذ موقفاً سلبياً من الشعب الإيراني الحالي أو الشعوب الإيرانية المنضوية اليوم تحت اسم "الجمهورية الإسلامية" أو أن يذهب عاقل لمعاداة المذهب الشيعي والذي يعتنقه الملايين، فهو اجتهاد من ضمن الاجتهادات الأخرى الإسلامية والتي تطور بعضها والآخر انقرض.
ما تقدم هو قول العقل، المختلف عليه هو "الاقتراب السياسي الذي تبنته الجمهورية الإسلامية تجاه الغير" وخاصة التدخل في شؤون المجتمعات الأخرى القريبة، من خلال شعار ملتبس يحمل عنوانين: الأول "تصدير الثورة"، والثاني "الدفاع عن المظلومين"، وكلا الشعارين مطاطان، وكان يمكن فهمهما في بداية "العنف الثوري" إلا أنه مع الزمن أصبحا عبئاً على المحيط وعلى المجتمع الدولي، كما ظهرت أصوات من الداخل الإيراني لها موقعها حتى الرسمي مثل محمد جواد ظريف إذ قال علناً "قد نكون متعاطفين مع المظلومين ولكن لا نحارب بدلاً عنهم"، وهي أصوات عاقلة تضيع وسط ضجيج التحشيد الغيبي ذي الشهوة المغامرة.
الموقف الإيراني من فلسطين يسوق على أنه نصرة المظلوم، وهو شعار جذاب، إلا أن الظلم في العالم كثير وكثيف، فهناك مثلاً في الصين مسلمون مظلومون كما هم مجموعة الإيغور، ولكن العلاقات الإيرانية - الصينية "سمن على عسل" ولم يذكر حتى في إعلام الجمهورية أي حديث ناقد لما يلقاه الإيغور من معاملة سلبية. كما أن شعب أوكرانيا شعب مظلوم من خلال شن حرب ضده وضد إرادته، ومع ذلك ترسل الجمهورية الإيرانية الطائرات المسيرة المصنعة عندها للقوة المعتدية على الأراضي الأوكرانية، للاستخدام ضد المظلوم، فهي هنا تساعد "الظالم على المظلوم" على عكس شعار نصرة المظلوم!! في النزاع بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ، تقف إيران بجانب أرمينيا، وأذربيجان مسلمة بأغلبية شيعية، ومع ذلك فإن معادلة الظلم واللا ظلم هنا متجاوز عنها.
الظلم في المقياس الإيراني له معايير مختلفة، يمكن أن توضع في إطار "تشتيت الانتباه" أو القول العربي شعار حق أريد به باطل. فقد التحمت فكرة "تصدير الثورة" في أذهان قادة الجمهورية الإيرانية، وتصورت أن أفضل مكان لتحقيق ذلك الشعار هو الخاصرة العربية، وبذلك أنشأ فيلق القدس لتحرير فلسطين، والطريق هو إنشاء ميليشيات عربية هدفها الأول والمستتر خلخلة الأنظمة العربية، ساعدها في ذلك استثمارها في مجموعات "غاضبة وقصيرة النظر" فقامت تلك المجموعات بإشاعة الاضطراب في كل من العراق ولبنان واليمن، وأيضاً في دول عربية أخرى بدرجات أقل، أما قطاع من الشعب الفلسطيني وخاصة "حماس" و"الجهاد"، فلم يكن أمامهم وهم قاصرون على التلاحم بالقطاع الأكبر من شعبهم، إلا الاستعانة بإيران، إذ وفرت لهم التدريب والمال ولكن ليس كل السلاح الذي يحتاجونه، كما فعلت في لبنان، فالسلاح المهيمن في كل من غزة ولبنان في طوال العام الماضي هو سلاح الطيران، وله ما يقاومه وهو المدافع المضادة للطائرات، ذلك لم يتوفر، فأصبحت بيروت كما غزة مكشوفة، عدا الخراب الاقتصادي والاجتماعي الذي حل بكل من لبنان وسوريا واليمن وغزة أيضاً!
الفكرة المركزية للنظام الإيراني هي محاربة النفوذ الأميركي وبالتالي ما يمثله في المنطقة وهو إسرائيل، في تصور راسخ أن من أفشل ثورة محمد مصدق عام 1953 هو الولايات المتحدة وبالتالي يمكنها في نظرهم أن تعيد الكرة لحرمان الطبقة المعممة من الحكم في إيران، فهي حرب استباقية، ذلك وهم لأنه يتجاوز ما تغير من ظروف دولية أولاً، وثانياً أيضاً يتجاوز أن الغرب لم يعد يهتم بالوجود كما يهتم بالمصالح. على تلك الأفكار الوهمية بنيت قواعد الصراع في الأربعين عاماً الماضية، نحاربهم من خلال أدوات خارج الجغرافيا الإيرانية، ونجعلها رأس حربة للمشاغلة بدلاً من التورط في حرب، فليكن لبنان ساحة واليمن ساحة أخرى والعراق ساحة ثالثة وهكذا.
اتسع الأمر إلى درجة تهديد المصالح التجارية الدولية في باب المندب والعالم يعرف أن المنفذين اليمنيين ما هم إلا واجهة لتقنية وإشراف إيرانيين، ذلك أمر لم يعد خافياً حتى على العامة.
الاقتراب من هذا الموضوع كان من الطبيعي أن يصل إلى نهاياته، وهو انقلاب السحر على الساحر، فموضوع "نحاربهم على أرض غيرنا" انتهت صلاحيته، وأجبرت إيران أن تتدخل بعد الخسائر الضخمة لمواردها، على أن يكون ذلك التدخل محسوباً وإرضاء في بعضه لرأي عام صدق ما تدعيه ولكن كل ذلك يخلق ديناميات قد تتطور، فالهجوم الصاروخي الإيراني في نيسان (أبريل) الماضي كان واضحاً أنه من خلال "قواعد اللعبة"، وأعتقد أن الهجوم الثاني "الوعد الصادق" الرقم 2 "ثأر نصر الله وهنية" في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) هو في المعادلة نفسها، إلا أن الديناميات اختلفت هذه المرة.
لذلك فإن العالم يحبس أنفاسه اليوم بانتظار الرد الإسرائيلي والذي في الغالب سوف يخرج عن قواعد الاشتباك ويسبب ضرراً كبيراً لإيران، تجبر من بعده للتخلي عن بقايا أذرعتها في المنطقة، ويتبين للقاصي والداني أن تصدير الثورة ونصرة المظلومين هي شعارات، لم تستطع الثورة الفرنسية فعلها في نهاية القرن الثامن عشر، وكذلك الثورة الإيرانية في الهزيع الأخير من القرن العشرين! في الغالب ستكون الثورة المجهضة بسبب فرق الشعارات عن الواقع، والعالم في انتظار النبأ العظيم!!