دمار في ضاحية بيروت الجنوبية خلفتها غارة إسرائيلية (أ ف ب)
صار الحديث عن التعددية القطبية في قيادة النظام الدولي منذ بضع سنواتٍ موضةً فكرية وسياسية. من خلال الصعود الاقتصادي والتقني الهائل للصين، وخروج روسيا من التسوية التي فرضت عليها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وبروز قوى متوسطة في آسيا وأميركا اللاتينية، بدا لكثيرٍ من المفكرين أننا نسير نحو عالمٍ لا تحكمه الإمبراطورية الأميركية منفردةً، كما حدث خلال ثلاثة عقودٍ ماضية بعد نهاية الحرب الباردة، وهزيمة المعسكر الشرقي. لكن، يبدو أن البعض وقع في تعجلّ الفرح بهذه التعددية.
تكشف سنة مضت من حرب مستمرة على غزة، وما حولها من جبهاتٍ على مدى المشرق العربي وصولاً إلى إيران، عن أننا ما زلنا في عصر هيمنة الإمبراطورية، وأن النظام الدولي متعدد الأقطاب، أقله الثنائية القطبية بين بكين وواشنطن، ما زال بعيد المنال. فالولايات المتحدة اختارت معسكرها منذ البداية في دعم إسرائيل، عسكرياً وسياسياً. في المقابل، بدت مواقف القوى التي تريد أن تكون نديةً لها في قيادة النظام الدولي – وأساساً روسيا والصين – خجولةً وبعيدةً عن مستوى الموقف الذي من شأنه أن يجعلها قوةً لها صوت وقرار في العالم، حيث يبدو أن موازين القوى ما زالت مختلةً – حتى الأن على الأقل – لصالح أميركا.
إن من يريد أن يكون ندياً في صدارة النظام الدولي، يجب أن يكون قادراً على فرض الحرب والسلم، وتقديم نفسه، لا كقوةٍ عسكرية أو اقتصادية، ولكن كضامنٍ للسلام ولو كان بالقوة، وكمدافعٍ عن المجتمعات والدول التي يرى أنه يتقاطع معها في الرؤية إلى ما يجب أن يكون عليه النظام الدولي، كما فعلت أميركا في أوكرانيا مثلاً، أو كما فعلت سابقاً في يوغسلافيا، أو كما فعل الاتحاد السوفياتي دائماً في ساحاتٍ كثيرةٍ في أفريقيا وأميركا اللاتينية. لكن، ما نراه اليوم من مواقف صينية وروسية، لا ترقى في الحد الأدنى إلى المطلوب منهما كقوتين دوليتين، يكشف بوضوح عن طبيعة دورهما العالمي.
من جهة، تبدو روسيا دولةً قوميةً لا تتمتع بسردية أممية قادرةٍ على أن تضعها في نديةٍ مع أميركا في ثنائية قطبية. أما الصين، فاستراتيجيتها تقوم على تقديم الاقتصادي على السياسي. وبالتالي، فإن هاجسها الإنتاجي والتصديري يطغى على كل هواجسها الأخرى. وهي، إلى ذلك، ما زالت أسيرة نموذج العولمة التي خلقت شبكة معقدة من الترابط الاقتصادي المتبادل، إذ ما زال اقتصادها غير متشابك بشكل وثيق مع الاقتصاد الأميركي، ما يحدّ من قدرتها على تحدّي الهيمنة الأميركية. فضلاً عن ذلك، ما زالت واشنطن تتمتع بسيطرةٍ واضحة على مؤسسات هذا النظام الدولي، التي تتشكل إلى حد كبير وفقاً للمصالح والقيم الأميركية، والتي تعمل غالباً على تعزيز هذه الهيمنة. وقد ظهر ذلك بوضوحٍ في عجز هذه المؤسسات، رغم أقلية الصوت الأميركي والغربي داخلها، على وقف حرب الإبادة في غزة.
رغم انتهاجها سياسة عدم التدخل، ودعمها إقامة الدولة الفلسطينية، وهي سياسة كان من يمكن أن تجعل منها فاعلاً يحظى بالثقة في العالم العربي ولدى الشعب الفلسطيني، فإن الصين بدت عاجزةً عن التأثير الفعال في الصراع، وبدا أن نفوذها الديبلوماسي شديد الضعف. وربما يرى المدافعون عن النهج الصيني في ذلك تأكيداً على سياسة عدم التدخل، أو على برودة النهج الصيني الذي يتجذر في المنطقة على مهلٍ وبلا قوةٍ. إلا أن سياسة عدم التدخل ليست صائبةً دائماً، خصوصاً بالنسبة إلى دولة تريد أن تكون قائدةً لنظام دولي مفترض في المستقبل، وليست صائبةً بالمرة في ظل حربٍ إبادية، تفترض تدخل قوى دولية لها وزن، تقدم أحياناً المصلحة الإنسانية والأخلاقية على سلاسل التوريد وطرق التجارة العالمية.
لكن، ورغم غياب هذا النظام الدولي متعدد الأقطاب اليوم، فإن شئياً لن يمنعه من الظهور في المدى المتوسط والقريب. فهذه الحرب الإبادية في فلسطين ولبنان تضاف إلى حروبٍ كثيرة، بشعةٍ وغير عادلةٍ، دعمها النظام الأحادي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. وهي حروب تقلص في كل مرة من سطوة نموذج الهيمنة الثقافية والفكرية الأميركية على العالم.