لا يستخدم المصريون أسماء الأشهر الآشورية في مخاطباتهم أو مفردات كلامهم بين بعضهم البعض، وإنما يعتمدون الشهور الغربية (الإفرنجية)، وحين يتحدثون عن عبور قناة السويس واقتحام جيشهم لخط بارليف وتحرير أجزاء من شبه جزيرة سيناء العام 1973 فإنهم يتحدثون عن "نصر السادس من أكتوبر" وليس عن "حرب تشرين الأول"، لكنهم بسبب كثافة التناول الإعلامي لعملية "طوفان الأقصى" وتداعياتها وما جرى بعدها تعودوا على توصيفها بهجوم حركة "حماس" على إسرائيل في "السادس من تشرين الأول" وهو التاريخ الذي يعتقد غالبيتهم أن نتائجه كانت كارثية ونكبة بالنسبة للفلسطينيين والعرب ثم في مرحلة لاحقة على لبنان وأهله.
وقد يرى بعضهم أن احتفالات المصريين بالذكرى الحادية والخمسين لنصر السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973 كانت صاخبة أو تضمنت رسائل بدا أنها ضرورية إلى أطراف عدة ضالعة في تعقيد الأوضاع في الشرق الأوسط، إذ عقد الرئيس عبد الفتاح السيسي اجتماعاً مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة كما جرى تخريج دفعة جديدة من طلبة الكليات العسكرية بالتزامن من عرض عسكري وجوي، وكذلك الإعلان عن تركيب مصيدة قلب المفاعل للوحدة النووية الثالثة ضمن مشروع المحطة النووية بمنطقة الضبعة على ساحل المتوسط، لكن تفاعل قطاعات الشعب مع الذكرى والاحتفالات عكس مشاعر الاطمئنان لديهم وكذلك رضاهم عن تطوير جيشهم وتعظيم قدراته بما يضمن ردع أي طرف لديه رغبة أو نية أو مخطط للاعتداء على مصر أو الزج بها في أتون الصراعات الدائرة في المنطقة، غير أن اللافت أن الغضب من طبيعة الاحتفالات والخطاب السياسي الذي رافقها لم تصدر إلا عن أطراف إسرائيلية ومنصات إعلامية وشخصيات تنتمي أو مرتبطة بتنظيم "الإخوان"، ما دفع بالمصريين إلى تنظيم حملات على مواقع التواصل الاجتماعي للسخرية من الجيش الإسرائيلي مذكرة بمشاهد تسليم الأسرى الإسرائيليين بعد انتهاء الحرب بملابس النوم، وفي الوقت نفسه استعادة مواقف "الإخوان" العدائية ضد الجيش المصري منذ ثورة تموز (يوليو) 1952 وحتى استجابة القوات المسلحة المصرية للإرادة الشعبية بإطاحة حكم "الإخوان" وما جرى بعدها من حملات شاركت فيها دول داعمة للتنظيم وأجهزة استخبارات دول غربية كانت تأمل في استمرار حكم التنظيم، لكن المدهش أن "الإخوان" ومعهم باقي التنظيمات والميليشيات والأحزاب والجماعات التي تصنف نفسها في المربع نفسه في ما يطلق عليه "محور المقاومة" سعوا جميعاً، من خلال مواقع إلكترونية وقنوات فضائية وحسابات شخصية إلى الربط ما بين انتصار الجيش المصري في حرب تشرين الأول (أكتوبر) وعملية "طوفان الأقصى" رغم التباين الشديد بين الحدثين، باعتبار أن انتصار الجيش المصري قبل 51 عاماً لم يتكرر من أي طرف عربي إلا حين نفذ عناصر حركة "حماس" هجوماً العام الماضي على إسرائيل! ودون الدخول في سرد وقائع معروفة وعايشها الناس تتعلق بالحدثين فإن الصحيح أن العامل المشترك بينهما يتعلق بوقوعهما في الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول، لكن التباين بينهما ليس فقط فارقاً زمنياً يصل إلى نصف قرن وإنما يبدو جلياً ويظهر في الفوارق بين قيمة الدولة الوطنية الراسخة وجموح الحزب صاحب الجناح العسكري، وحسابات الجيش الوطني وتهور الميليشيات، وولاء الضباط والجنود للوطن وتبعية عناصر الجماعات المسلحة للمرشد أو الفقيه.
لا مجال لتشبيه نصر أكتوبر بنكبة تشرين حتى لو أطلق عليها "طوفان الأقصى"، فالجيش المصري حرر سيناء واستعاد الأرض التي كانت تحتلها إسرائيل بحسابات معقدة وضعت في الاعتبار أن الهزيمة غير واردة لأن نتائجها ستفوق ما جرى في العام 1967 واستجابة لمطالب شعبية حشدت تأييداً كاسحاً ورغبات عارمة لدعم الجيش ومساندته، وبعد تفاهمات مع دول شقيقة تفاعلت مع الدولة المصرية بالدعم والتأييد سياسياً وعسكرياً، بينما "طوفان الأقصى" نفذت بواسطة تنظيم متأسلم ارتضى أن ينضوي تحت عباءة إيران وتحول من حركة تحرر وطني إلى أداة ضمن تنافس إقليمي، ولم يدرس جيداً النتائج المحتملة للعملية التي أفرزت أهوالاً وكوارث عليه وعلى قادته وعلى الفلسطينيين، ولم يستوعب الظروف السياسية التي يمر به نتنياهو وقرب الإطاحة به لأسباب داخلية فمنحه الفرصة للنجاة بل وترسيخ وجوده ولانتهازه فرصة الحرب للبقاء بدوافع انتقامية أيده فيها مجتمعه اليميني المتطرف، ثم روج التنظيم لخطاب مظلومية متهماً الدول والشعوب العربية بالتخلي عن القضية الفلسطينية، مطلقاً منصاته ووسائل إعلام حلفائه من الممانعين الآخرين للإساءة للجيوش العربية والحكام والشعوب. لم تتوقف منصات "الإخوان" وكل القوى الداعمة لهم بما فيها منصات "حماس" عن محاولة الإساءة للجيش المصري على مدى سنوات، وسيظل هدفاً بغض النظر عن كراهية عناصر "الإخوان" وقادتهم لجمال عبد الناصر أو السادات أو مبارك أو السيسي، لأن بقاء الجيش موحداً متماسكاً قوياً يعني أن الحكم بالنسبة لـ"الإخوان" بعيد، وإن اقتربت أحلام الجماعة من التحقق كما حدث بعد أعاصير الربيع العربي فإن الجيش قادر على أن يحولها إلى كوابيس ويعيدها مجدداً إلى الخلف! والأمر لا يقتصر على "الإخوان" وإنما كل الجماعات والتنظيمات المتأسلمة التي صارت كراهية الجيوش الوطنية بالنسبة لها عقيدة كما أفكار أخرى رسخت في عقول أعضائها بفعل أساليب إعداد الكادر المتأسلم الفعالة، والتي تجعله لا يصدق إلا قادته ولا يتحرك إلا بأمر منهم ولا يفكر إلا في ما يلقن له. الحملة على الجيش المصري لم تؤتِ أي ثمار، بل أفرزت مناخاً عدائياً ضد "الإخوان" أنفسهم من جانب قطاعات جماهيرية واسعة، والمدهش أن لا "حماس" أو "حزب الله" أو أي من التنظيمات المتأسلمة الأخرى استوعب الدرس أو فهم أن في إمكانها إسقاط الأوطان أو الإساءة إلى الجيوش الوطنية ببضع شائعات وكثير من الفبركات وقدر من الشتائم في المنصات والقنوات، وحتى على الجدران!!
يحصد نتنياهو اليوم ما زرعه الأميركيون والإيرانيون والمتأسلمون في أنحاء العالم، أو ربما هي الخطة التي وضعت قبل عقود وجرى تنفيذها بنجاح عندما أعلن بوش الأب أن الدين قد يكون العامل الأساسي للسلام في الشرق الأوسط، ومن وقتها جرى إنهاك القومية العربية حى تموت ويتعاظم دور الأحزاب الدينية من "الإخوان" حتى الوصول إلى ولاية الفقيه، واستفادت إيران من ذلك التحول بعدما صار الحديث عن شرق أوسط جديد وليس عن أمة عربية، وأسست أذرعها في دول عدة وحالوا مع مصر عبر تنظيم انتهازي كـ"الإخوان" تحالف مع طهران رغم التناقض الديني الفكري، واستفاد "الإخوان" وإيران من الربيع العربي بعد الفوضى التي ضربت المنطقة العربية وسقوط دول وتفتت مجتمعات وتأسيس إعلام من داخل دول عربية كانت أجندته الإساءة إلى الدولة الوطنية وتعظيم دور الأحزاب والجماعات والتنظيمات الدينية والسخرية من الجيوش والنيل من سمعتها وكفاءة قادتها، فكانت النتيجة التي نعيشها الآن: ميليشيات تتحكم في مقادير دول وتلحق بالشعوب نكبة بعد أخرى.