وحيد علي
حينما قدمت النائبة روزي دافيلد استقالتها من حزب العمال البريطاني الشهر الماضي احتجاجاً على "جشع" زعيمه كير ستارمر، كان الأخير في قلب العاصفة التي أثارها قبوله "أعطيات" شخصية. هكذا ألحق سلوكه الضرر بصورته، حتى في عيون رفاقه في أول شهرين له في الحكم، فصارت المقارنات تُعقد بينه وبين بوريس جونسون الفضائحي.
والواقع أن هدايا ستارمر والسيدة الأولى فيكتوريا، لم ترقَ إلى مستوى الرشى. مع ذلك، تستغرب غالبية الناخبين موافقته على تلقيها وتكاد لا تصدق إصراره أولاً على حقه بها! لكن أليس أولئك الذين أغروه بقبول الأعطيات شركاءه الذين يستحقون "اللوم"؟
اللورد وحيد علي (59 عاماً) هو أبرز هؤلاء "المتبرعين"، إذ دفع من جيبه نحو 40 من أصل 107 آلاف جنيه إسترليني، وهي قيمة الهدايا الاجمالية التي اعترف بها ستارمر. وحامت الشبهات حوله حالما كُشف عن حصوله بشكل استثنائي على إذن مفتوح بدخول 10 داونينغ ستريت.
وهو مليونير ولد في جنوب لندن لأم هندوسية وأب مسلم، كلاهما من أبناء الجالية الهندية في دول في حوض البحر الكاريبي. ويبدو أن علاقته بالإسلام تقتصر على الاسم! ولعله لم يغيره لأنه إكزوتيكي، يساعد على تمييزه عن النخب السياسية والاقتصادية والفنية التي يتحرك في فضائها، منذ أوائل تسعينات القرن الماضي.
في أيام توني بلير تبلورت معالم دور وحيد، كلاعب سياسي ماهر و"حلّال عقد" من الطراز الأول. فالزعيم الأسبق رفع راية ثقافة منفتحة تحمي الحريات الفردية، وذلك في سياق سعيه لكسب الأقليات المهمشة. واهتم بالمثليين قبل غيرهم، كما يدل تعيينه كريس سميث أول نائب بريطاني يعلن (1984) ميوله المثلية، عضواً في مجلس وزرائه الأول (1997-2002). هكذا أخذ أعضاء هذه الأقلية وناشطوها المتحمسون، كوحيد ذاته، يتنفسون هواء الحرية بتشجيع من النظام. وفي 2003 أُلغيت المادة 28 التي أدخلتها مارغريت تاتشر في 1988 في القانون لمكافحة المثلية، وكان وحيد وأصحابه قد ناضلوا ضدها بضراوة. وتصميمه على حماية حقوق المثليين كان في طليعة أسباب خوضه غمار السياسة التي قال إنها بالنسبة اليه "سياسة الهوية الجنسية، أو المساواة."
وفي أواخر ثمانينات القرن الماضي بدأ وحيد يرسّخ أقدامه في القطاع المصرفي. إلا أن جيوبه لم تنتفخ حقاً حتى دخل بقوة ميدان الانتاج التلفزيوني بداية التسعينات، وراح يبتكر البرامج الجديدة التي بلغت ذروة نجاحاتها المهنية والمادية في 1999. وكان عهد بلير بالنسبة إليه بمثابة العصر الذهبي الذي حقق خلاله انطلاقته الكبرى وتمددت أعماله خارج البلاد إلى اليابان، وأميركا، وأوستراليا، وغيرها. كما صار منذئذ يبرز على الصعيد السياسي. فقد اعتمد عليه رئيس الوزراء للوصول إلى جيل الشباب بحكم حضوره القوى في عالم الثقافة الرائجة. وخلع عليه لقب الشرف في 1998، ما جعله حينذاك أصغر عضو (33 عاماً) في تاريخ مجلس اللوردات. ومن يومها صار البرلمان مسرحاً لدفاعه المحموم عن المثلية.
اتُهم رئيس الوزراء الأسبق بمحاباة اللورد علي وتمييزه عن غيره بوصفه "صديقاً مفيداً". أما هو فبقي يعمل بصمت من وراء الستار. ولم يتردد يوماً في التبرع للحزب بسخاء كلما لزم الأمر. لكن لم يُعرف عنه تقديم هدايا نفيسة أو "أعطيات" لبلير أو عائلته أو حتى أحد وزرائه أو كبار مساعديه.
وبطبيعة الحال، تختلف تجربته مع ستارمر اختلافاً كبيراً. فقد أغرقه هو وعائلته وحتى نائبته أنجيلا راينر بهدايا بلغت قيمتها نحو 40 ألف جنيه إسترليني وتمثل أكثر من ثلث القيمة الإجمالية للهدايا التي كانت من نصيب الزعيم العمالي العام الماضي (107 ألف إسترليني). وضمت "هدايا" اللورد علي بطاقات لمباريات آرسنال (12،588 ألف إسترليني)، وثياب للزعيم ولزوجته (16200 إسترليني)، ونظارات (2،485 إسترليني)، وعُطل خارجية، وإيجار شقته الخاصة التي يقدر سعرها بـ 20 مليون جنيه إسترليني لنجل ستارمر كي يحضّر لامتحاناته.. فلماذا كل هذا؟
رئيس الوزراء الذي دافع بضراوة أولاً عن موقفه من الهدايا متجاهلاً الانتقادات الصريحة في الإعلام وخارجه بسبب "استفادته" الشخصية من موقعه السياسي، أخذ يتراجع عن موقفه. وتقول الحكومة إن اللورد علي كان مسؤولاً عن جمع التبرعات للحملة الانتخابية، الأمر الذي يفسر حصوله على الإذن بالدخول الى10 داونينغ ستريت. وتنفي سعيه لنيل أي "جزاء"، مشددة على أن ما قيمته 86 ألف إسترليني من الهدايا وصل الى ستارمر قبل تسلمه الحكم.
إلا أن التساؤلات لاتزال تتردد. ولم يقتنع الكثيرون بدفاع ستارمر العنيد عن موقفه أول الأمر. كما لم يصدقوا تماماً أن "الهدايا" كانت وستبقى من دون "مقابل" قد يجد طريقه إلى المليونير النشيط بعدما يهدأ الضجيج. ويرى المتحفظون عن "الهدايا" أنها تختلف عن التبرعات الحزبية التي قدم اللورد علي منها 500 ألف جنيه إسترليني منذ 2020. فدعم الحزب أمر مألوف يعود إلى أسباب إيديولوجية أو غايات ومصالح معينة، لكن الأعطيات الشخصية تدعو إلى الشك لأنه "ليس هناك غداء مجاني"، على حد تعبير المثل الإنكليزي.
في هذه الأثناء، يكتنف الغموض شخصية "اللورد الخفي". يعتبره أصدقاؤه أنه يتسم بالكرم واللباقة في تعامله مع الآخرين. وقلما تجد له تصريحاً سياسياً، ونادراً ما يتحدث الى الإعلام أو أمام جمهور عام، إلا في مسائل تتصل بالمثلية. ويوصف بأنه من النوع الذي "يعمل أكثر مما يحكي". وربما كان هذا هو سر نجاحه في تكديس الملايين منذ ثلاثين عاماً حتى صار لديه ما يقدر بـ 200 مليون جنيه إسترليني (نحو262 مليون دولار).
وتلاحق ستارمر الأسئلة والاتهامات ويُخشى أن تكون"فضيحة" الهدايا شوهت سمعته وسمعة حزبه إلى الأبد. أما اللورد علي فلن يسأله أحد عن سرّ سخائه "الفتّاك"!