يتابع العالم فصول الحرب المجنونة التي بسطت رداءها على الشرق الأوسط، منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، عندما قررت "حماس" الهجوم على الداخل الإسرائيلي، وما تلى ذلك على امتداد سنة كاملة من تحويل غزة إلى أرض محروقة بلغ مجموع الضحايا فيها بين قتيل وجريح ما يفوق 150 ألفاً، مع تدمير كلي للبنية التحتية والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية وغيرها من المرافق.
لكن تلك المأساة المستمرة إلى اليوم أضحت مجرد خبر توارى إلى الخلف عقب انطلاق مأساة أخرى جديدة، قد تكون أكبر وأوسع نطاقا وأثراً لأنها تهم بلداً بحجم لبنان، الذي وجد نفسه مرة أخرى في قلب حرب مع إسرائيل، لم يُستشر بشأنها ولم يقرر خوضها ولم يستعد لها، فقط لأن "حزب الله" يواصل اختطاف القرار السيادي للدولة، وقرر منفرداً جرّ البلاد كلها إلى مجزرة يقودها تيار يميني متطرف في إسرائيل، بقيادة بنيامين نتنياهو.
النجاحات النوعية التي حققتها إسرائيل منذ هجوم "حماس"، وعلى رأسها اغتيال القيادات السياسية والعسكرية لكل من إيران و"حزب الله" و"حماس"، سواء في غزة أو طهران أو بيروت أو دمشق، والتي تظهر حجم الاختراق الذي يعاني منه "محور المقاومة"، أظهرت الحاجة إلى ردّ إيراني لرفع العتب، على الأقل، أمام الشعب الإيراني أولاً، ثم أمام أنصارها في مختلف الساحات، وخصوصاً البيئة الحاضنة لحزب الله في لبنان، وتحديداً بعد اغتيال حسن نصر الله. صحيح أنه قبل أسبوع، كان الخطاب الرسمي الإيراني، سواء في طهران أو نيويورك، خطاباً مهادناً مرناً منفتحاً ومسالماً، بلغ حدّ تحميل "حزب الله" مسؤولية الردّ على إسرائيل، بغض النظر عن حجم الخسائر التي تكبدها وهو يواجه معركة وجود، أكدت على ذلك وزارة الخارجية الإيرانية في تصريح رسمي، لكن يبدو أن النظام في طهران أجرى مراجعة لتقييم الوضع الحقيقي في المنطقة، وهذه المراجعة خلصت إلى أن الهدف الأول لإسرائيل هو تدمير "محور المقاومة"، وإخراجه من معادلة الصراع الإقليمي بوصفه الأداة المتقدمة في مواجهة إسرائيل، ثم بعد ذلك توجيه الضربة القاضية للنظام في إيران. لذلك، خلص علي خامنئي وقادة الحرس الثوري الإيراني إلى ضرورة توجيه ضربة استباقية نوعية لكن محسوبة، بوصفها مرحلة متقدمة من التفاوض مع الأميركيين بصفة خاصة. وقد أعلنت طهران بعد الرشقات الصاروخية على إسرائيل أن ردها سيتوقف عنذ ذلك بشرط ألّا ترد تل أبيب. ومعنى ذلك أنه إذا لم ترد إسرائيل بهجوم على إيران، فلا مانع لدى طهران أن يواصل نتنياهو المحرقة في كل غزة ولبنان، فهي قامت بالواجب ومن ثم فإن "محور المقاومة" وفي طليعته "حزب الله" عليه أن يلعب الدور الذي خلق من أجله منذ 40 سنة. طبعاً، يتوقف ذلك على طبيعة الردّ الإسرائيلي الذي قد لا يتجاوز الحدود المقبولة من طرف الأميركيين، هذا إذا لم يفاجئهم نتنياهو الذي يعتبر الفرصة سانحة لتدمير البرنامج النووي الإيراني، وهو يعد مسألة وجودية بالنسبة إلى الدولتين، إذ إن امتلاك إيران السلاح النووي سيمنحها نفوذاً أكبر في المنطقة كلاعب إقليمي رئيسي يجب التفاوض معه في كثير من القضايا.
نستحضر هنا معارضة إسرائيل الشديدة لخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، وهي ما يُعرف بالاتفاق النووي الذي وقّعته الإدارة الأميركية على عهد باراك أوباما مع إيران، بتاريخ 14 تموز (يوليوز) 2015، رفقة كل من الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا، إضافة إلى ألمانيا. نتنياهو وصف الاتفاق ساعتها بـ"الخطأ التاريخي"، واعتبر كثير من السياسيين والأمنيين الإسرائيليين أنّ ذلك الاتفاق من شأنه تعزيز موقع إيران، خصوصاً في الجوانب العسكرية التقليدية مثل الصواريخ البالستية، وهو ما ظهر جلياً في هجوم أول أمس، إضافة إلى اليقين بأنّ طهران سوف توظف عائدات رفع العقوبات لتشديد الطوق على إسرائيل عبر حلفائها في سوريا ولبنان وغزة، بل إنّ بعض التقديرات الإسرائيلية ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما اعتبر أنّ استمرار البرنامج النووي المدني في إيران من شأنه أن يمكّن إيران في نهاية المطاف من امتلاك السلاح النووي حتى لو تحقق ذلك بعد 10 سنوات أو 15 سنة. لذلك، استمرت إسرائيل في استهداف الكونغرس الأميركي لإسقاط الاتفاق النووي، وهو ما تحقّق مع إدارة دونالد ترامب، واستمرت عليه إدارة جو بايدن إلى اليوم، رغم كل المحاولات التي قام بها الأوروبيون. خلافاً لذلك، كان رأي بعض كبار رجال الموساد الاسرائيلي (عاموس يادلين وإفرايم هاليفي) أنّ الاتفاق النووي سيمكّن من تأخير قدرة إيران على امتلاك السلاح النووي، وهذا أمر يتحقق بأقل كلفة، في إشارة إلى تجنّب حرب مع إيران.
على العموم، أظهرت أزمة البرنامج النووي الإيراني أنّ واشنطن وتل أبيب ليست لهما أجندة متطابقة في التعاطي مع التهديد الإيراني. تكرّر هذا الأمر في الاتفاق الذي تم بين واشنطن وطهران الخاص بإطلاق سراح 5 سجناء أميركيين، في مقابل حصول إيران على 6 مليارات دولار من أموالها المجمّدة في إطار العقوبات الأميركية، والذي كان موضع انتقاد من طرف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، كما أن الإدارة الأميركية سعت بكل الوسائل إلى نفي تورط إيران في 7 تشرين الأول (أكتوبر).
جملة، يمكن القول إنّ واشنطن حاولت دفع إيران بعيداً من الحرب المفتوحة على كل الاحتمالات في غزة، سواء من خلال الجزرة المتمثلة في الصفقة المربحة التي ضخّت 6 مليارات دولار في خزائن نظام مفلس ويعاني من حصار طويل، أم من خلال العصا، وتتمثل في حاملات الطائرات الأميركية في شرق المتوسط والبحر الأحمر، والتي بلا أدنى شك ستتدخّل بشكل مباشر إذا كان هناك تهديد وجودي لإسرائيل، سواء عبر جنوب لبنان أم الجولان السوري أم اليمن أم العراق أم إيران نفسها. في المقابل، يبدو أنّ تل أبيب ترحب بالتدخّل الإيراني لحسم التهديد الوجودي الجدّي الوحيد الذي ستواجهه في المنطقة في العقود المقبلة، ولو أنها كانت تفضل على الأرجح تصفية حلفاء إيران أولاً. فهل يكون الردّ الإسرائيلي الذي ينتظر أن يكون عنيفاً و استثنائياً، شرارة حرب إقليمية بدون قواعد اشتباك أو خطوط حمراء؟