منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وإقليمنا العاثر رهينة للأفّاقين، يتكاذبون ويتخادمون مع "خصومهم العقائديين"، لتأجيج العصبيات وتأبيد الصراعات، مطلقين العنان لأوهامهم الإمبراطورية الموعودة والتليدة، فيما يوسِعون شعوبنا قتلاً وتمزيقاً باسم الرسائل الخالدة. فلا يسود بيننا إلا الرعاع الحرافيش، يغتالون المرة بعد المرة محاولات بناء الدولة الوطنية واصطفاء النخب العاقلة المعمرة.
لكن، حيثما ازدهرت الحمى العقائدية الإمبراطورية، اخترقت إيران الدول الفاشلة وحوّلتها إلى مجتمعات ميليشياوية، تمتص دمها حتى العظم، وتمعن فيها فساداً وفرقة وتفكيكاً، وتدفعها إلى حضيض لا قعر له. واستثمرت إيران في ازدواجية الخطاب، وكان سر لعبتها أن "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم"، فلا تهدد إسرائيل وجودياً، ولا تجنح إلى السلام، في لعبة خدش متبادلة علها تنتهي يوماً بتقاسم الإقليم، وتحييد العرب بعيداً.
لكن هذه اللعبة صارت عتيقة، وتشرنقت الدول الميليشياوية العربية حتى الاختناق، وعبق الإقليم بتفسخها، فلا هو سلام ولا هي حرب، ولا هي دولة ولا هي ميليشيات، ولا هي أمم وشعوب ولا هي طوائف.
من جهتها، نجت معظم الدول العربية بنفسها من شرنقة إيران، أملاً في بناء أمة، دولة وطنية، ومجتمع سلمي متحضر، لا يسود فيه الرعاع الحرافيش. فحق البيت، قبل حق الجار! عندها، كان لا بد لإيران من استعادة المبادرة، وقلب المعادلات، وإعادة خلط الأوراق خدمة لتأبيد الصراع.
لكن السنوار باختراقه كسر لعبة "الذئب والغنم"، حين دفع ببضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين ليرتكبوا ما ارتكبوه! وبغض النظر عن حقيقة أنه ثقب النظرية الأمنية للجناح الديني المتعصب في إسرائيل، الذي أدار الظهر للسلام مع "الغويم" من العرب والفلسطينيين، لكنه في المقابل، ومن دون أي شك، كسر لعبة "الذئب والغنم" التي سمحت بالتخادم على مدى عقود.
في اللحظات التاريخية، لا يقدّر الكثيرون عمق ما لم يحصل ومغزاه! بل أزعم أن ما كان يمكن أن يحصل أكثر هولاً وفظاعة مما نشهده الآن. بل إن ما لم يحصل كان يمكن أن يكون ترياقاً لإنقاذ التخادم بين "العقائديين المسيانيين" في إيران وإسرائيل، فلو تمكّن نتنياهو من تهجير ملايين الفلسطينيين نحو مصر والأردن، لكانت ستكون وصفة خالدة لجحيم أبدي في الشرق الأوسط. وكما يتضح الآن، ورغم مقتل عشرات الألوف من الفلسطينيين، لم تتمكن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة من اجتراح صيغة بديلة لتستعيد ردعها أمام الفلسطينيين.
في المقابل، أطلق الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله حرب المساندة، ولم يحتسب التفاعلات التسلسلية التي تستدعيها، لتذكرنا بالمثل الفلسطيني "الثورة بلا عقل تصبح وكر حرافيش".
على عكس غزة، كان الغرب، وكانت أميركا، وكانت إسرائيل هذه المرة، مستعدة تماماً! فلقد نخر الحزب نفسه بالفساد حتى النخاع، وتمطّط غروراً ليغرق في مذابح ومستنقعات سوريا والعراق وصولاً لذلك الحوثي. وفجأة، اكتشفوا أنهم جميعاً عراة مكشوفين كراحة الكفّ بعد 18 عاماً كدس فيها خصومهم بصبر مقومات الضربة المقبلة.
اختراقات أمنية أقلها "البيجر"، وضربات استراتيجية ليس آخرها معامل مصياف، وتحييد النظام السوري، "فمن تعرف ثمنه تشتريه". وكان الحساب أنه في اللحظة الحرجة، لو ذهبت إيران نحو الحماقة، فسيُمكن حرمانها من ردعها الأخطر والأكثر تقدماً - "حزب الله". فذاك هو السبيل لإنهاء انتفاخ إيران ووضعها في سياق تفاوضي واقعي.
أما التحول الحاسم فكان في عقدة العقد - إيران. كان الأهم أن تبقى ساكنة، بينما تُحرم من درة تاجها الاستراتيجية، أي "حزب الله". وهكذا كان.
بتقديري، لم يعد بالإمكان استرجاع "حزب الله" أداة ردع إيرانية إقليمية في أي مدى منظور. وأزعم أنه ما لم ينكفئ "حزب الله" لسنين، فيراجع بنيته وأسبابه من أساسها، لن يتمكن من تحديد الخسائر، وستكون هذه هزيمته البائنة.
بعد 7 أكتوبر، وبعد إحباط مشاريع نتنياهو في "الترانسفير"، بقي العرب يدارون خبل الحماسة الفارغة وحماقة المسيانية الإسرائيلية والإيرانية، على حد سواء. فـ"الدرب إلى الجحيم مرصوف بجثث الطيبين".
أما الاستراتيجية الإيرانية من جهتها، فشهدت بهدوء تداعي جدارها الاستراتيجي الإقليمي الصدئ. لذلك، لم يبق أمامها إلا الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، ولم يبق أمام بزشكيان إلا استعادة ردع الأمة الإيرانية بحد ذاتها ولا أحد سواها، مديراً بذلك ظهره لأي وهم يقول إن إيران قد تغامر بأمنها القومي لحماية أذرعها.
لا تنتهي القصص التاريخية مثل الأفلام الإيطالية، فالتاريخ يكره اليقينيات والمعادلات السهلة، ليبقى المستقبل مفتوحاً لعديد الاحتمالات. لكنّ ثمة جثثاً متناثرة في الإقليم، أزعم أنها في نزعها الأخير، وأولاها جثث العديد من الميليشيات التي اقتاتت على تأبيد الوهم العقائدي.
وبعد رفح والضاحية، من سينزل ببئرك يا إيران؟ وبعدما هُدم ردع إيران بلا رجعة، وبعدما فقدت طهران القدرة على إنفاذ قوتها، لم تعد الميليشيات والأنظمة الولائية قادرة على فرض أجندتها، لا إقليمياً ولا وطنياً.
على المقلب الآخر، ورغم العمى العنجهي للعسكرية الإسرائيلية، أُرجّح أن تغيرات ستحصل حتماً في إسرائيل. فسوى ذلك، يبدو الطريق مسدوداً. بل أزعم أنه رغم كل شيء، لم تنتصر إسرائيل في غزة! لأنها وإن تمكنت من قلب السياق الاستراتيجي ضد إيران وأذرعها، فإنها لم تتمكن من قلب السياق التاريخي للصراع الجاري في قلبها مع الفلسطينيين! إذ ليست القوة وحدها معياراً للأمن القومي، ولذلك انسحبت أميركا من أفغانستان. وحتى لو انكفأت القوى الميليشيوية، فلن يكون الأمن لا لإسرائيل ولا للدول العربية من دون سلام منصف للفلسطينيين.
يتكثف التاريخ والمستقبل لعقود مقبلة في هذه اللحظة. ولا شك في أنها ستعيد من دون رجعة تشكيل الإقليم برمّته! لكن كيف؟ أجزم أن سلطات سياسية كثيرة ستتغير: لبنان وفلسطين وسوريا والعراق واليمن طبعاً! وستنهار منظومة الميليشيات من دون شك. وعلى ركام النظام الإقليمي المتعفن، ستنشأ أحلاف جديدة ومصالح جديدة.
في ظل فراغ القوة الواسع الذي يخلفه الانكفاء الإيراني المقبل، ربما يحاول الرعاع الإبقاء على مكاسبهم. إنها أكبر فرصة للدول العربية، بل هو أكبر تحدٍّ لهم منذ نشأتهم الحديثة. إنها لحظتهم كي يأخذوا زمام المبادرة، وإعادة التوازن الإستراتيجي الإقليمي.
ربما تطول الفوضى هنا وهناك، لكن مآلها في نهاية المطاف هو "الشرق الأوسط الجديد"، أحبت إيران ذلك أم لم تحبّ.