من بقي لديه أدنى شكّ في التدهور الكبير المستمرّ للحياة السياسية في تونس، خصوصاً في مجال الحرّيات، يستطيع الذهاب إلى الطريقة التي فرض بها قيس سعيّد نفسه رئيساً للجمهوريّة لولاية ثانية. لجأ الرئيس التونسي، الطامح إلى علاقات وثيقة مع "الجمهوريّة الإسلاميّة" في إيران وإلى التركيز على "المؤامرات الخارجيّة" المجهولة المصدر التي يتعرّض لها، إلى كلّ الوسائل التي في متناوله لتحقيق هدفه. كذلك، لجأ إلى تحييد كلّ سياسي تونسي ذي شأن يمكن أن يكون منافساً جدّياً له. استخدم القضاء خير استخدام للتخلّص من منافسيه.
في الشهور التي سبقت الانتخابات الرئاسيّة، التي أجريت في السادس من تشرين الأوّل (أكتوبر) الجاري، ذهب قيس سعيّد بعيداً في استخدام القضاء من أجل تحويل نفسه إلى مرشح من دون منافس. فرض تعديلاً دستورياً يلغي صلاحية المحكمة العليا التي دعت إلى السماح لمنافسين جدّيين بخوض الانتخابات. كانت هناك حاجة إلى مرشّحَين، لغرض الزينة، يخوضان الانتخابات. حصل ذلك بالفعل. المفارقة أنّ حكماً بالسجن لمدة اثنتي عشرة سنة صدر في حقّ أحد المرشّحَين اللذين سمح لهما بالمنافسة... فيما استَبْعَدَ المرشّحَين الجدّيَّين!
عندما يهزأ رئيس للجمهورية بالقضاء ويستخدمه أداة له، في أيّ بلد كان، يمكن قول ألف سلام على الديموقراطية. في أساس الديموقراطيّة الفصل بين السلطات الثلاث بدل تحويل مجلس النوّاب أداة طيعة للسيطرة على الحياة السياسيّة والتحكّم بها.
في ضوء الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، قضى قيس سعيّد على ما بقي من أمل في البناء على "ثورة الياسمين" التي كانت بداية "الربيع العربي" قبل أربعة عشر عاماً. قضى عملياً على كلّ إيجابيّة نتجت عن تلك الثورة التي أسقطت نظام زين العابدين بن علي.
تكمن مشكلة قيس سعيّد بأنّه لم يستطع تقديم أيّ شيء لتونس في ولايته الأولى التي استمرّت خمس سنوات. استبدل الدستور التونسي المتطوّر الذي أقرّ بعد "ثورة الياسمين" بدستور آخر على قياسه يسمح له بممارسة السلطات كلّها بشكل مطلق من دون حسيب أو رقيب.
كانت لمؤسّس تونس الحديثة الحبيب بورقيبة سيئات. لكنّ حسناته تفوق بكثير تلك السيئات، بما في ذلك حسنة إعطاء المرأة دوراً متميزاً في المجتمع. الأهمّ من ذلك كلّه أمران. الأوّل أنّه كانت هناك في عهده شخصيات سياسية تمارس دورها. لا مجال لتعداد هذه الشخصيات التي كان يُشار إليها بالبنان في عهد بورقيبة. أمّا الأمر الآخر، فيتمثّل في الرؤية السياسية الطليعية للحبيب بورقيبة الذي حاول قبل هزيمة جمال عبد الناصر تقديم النصيحة له عبر الخطاب المشهور الذي ألقاه في أريحا.
كانت لزين العابدين بن علي، أيضاً، سيئات كثيرة، من بينها إلغاء الحياة السياسيّة. لكن كانت لديه حسنات. في مقدّم هذه الحسنات النجاح الاقتصادي لتونس والعمل على قيام طبقة متوسّطة حقيقية تكون العمود الفقري للمجتمع.
قضى قيس سعيّد على كلّ إنجازات الحبيب بورقيبة ولم يجد من يلتحق به غير الخطّ الإيراني وخطّ ما يسمّى "جبهة بوليساريو" التي يستخدمها النظام في الجزائر في حرب استنزاف يشنّها على الجار المغربي منذ نصف قرن. ما الفائدة التي يمكن أن تحصل عليها تونس من أخذ موقف مع أداة لدى الجزائر؟
بين الفشل السياسي والفشل الاقتصادي الذي يُفقر تونس والشعب التونسي، أخذ قيس سعيّد أسوأ ما كان في بورقيبة وأسوأ ما كان في بن علي. لم يعد ما يمكن قوله غير أنّ تونس متروكة لمصير أقلّ ما يمكن أن يوصف أنّه غاية في السوء... إنّه مصير لا يستحقّه الشعب التونسيّ!