في الأسبوع الثالث من أيلول (سبتمبر) الماضي، كانت الصحافة البريطانية على موعد مع زلزال حقيقي. انهارت عروش شامخة وبدأت عملية تغيير في معالم المشهد الإعلامي التقليدي توحي مقدماتها بأنها ستكون جذرية. صحيفة "إيفنينغ ستاندارد" اللندنية، 203 أعوام، التي مرت في العقدين الماضيين بحالات صعود وهبوط، رفعت الراية البيضاء. تركت أيام العز حينما كانت تصدر أكثر من نسخة ورقية يومياً حبيسة الماضي البعيد، وصارت رقمية تخرج إلى النور مرة واحدة في الأسبوع. لكنها محلية، تبقى تداعيات انكسارها داخلية. أما صحف "أوبزرفر" و"ديلي تلغراف" و"صنداي تلغراف" ومجلة "سبيكتاتور"، فهي شأن آخر وستؤدي التغييرات التي تتعرض لها الى نتائج أوسع نطاقاً.
وقد انطلقت فعلاً المفاوضات للاتفاق على بيع صحيفة "أوبزرفر"، أقدم صحف الأحد في العالم الأنغلوسكسوني، وربما خارجه. في الوقت نفسه، كانت صفقة مجلة "سبيكتاتور"، أعرق مجلة أسبوعية في العالم التي صدر عددها الأول قبل نحو قرنين (1828)، قد أُبرمت. وخرجت المجلة المحافظة من حضن "مجموعة التلغراف الإعلامية" حيث كانت إلى جانب "ديلي تلغراف" و"صنداي تلغراف". في هذه الأثناء، تكاد المنافسات للاستحواذ على صحيفتي "التلغراف" تصل إلى نهايتها بعد آخر جولات تقديم العروض، ويُنتظر الإعلان عن المالك الجديد في غضون أيام.
وإذ تجمع العراقة والسمعة المهنية المرموقة بين "أوبزرفر" و"سبيكتاتور"، فإن الأيديولوجيا تفرقهما. الأولى، التي يملكها صندوق "سكوتش تراست ليمتد" إلى جانب صحيفة "الغارديان"، تعتبر عموماً ليبرالية. أما المجلة، فيمينية متطرفة، في رأي منتقديها. تعاقب على رئاسة تحريرها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثلاثة من كبار الوزراء في حكومات المحافظين السابقة، بينهما وزيرا مالية، ووزير دفاع. وفي مطلع الالفية، تسلم قيادها رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون. والآن سيخلفه على رأسها مايكل غوف، الوزير المخضرم الذي كان شريكه الأبرز في هندسة مشروع البريكست الذي دعمته المجلة بكل قوتها، ولاتزال تدعمه.
وليس هناك أي شك في أن المجلة التي اشتراها الملياردير المثير للجدل بول مارشال مقابل 100 مليون جنيه إسترليني (نحو 130 مليون دولار) ستبقى وفية لمبادئها اليمينية المحافظة. وثمة ما يبرر التفكير باحتمال جنوحها إلى مزيد من التشدد اليميني، فهي ستكون في عهدة شخصين اتُهم كل منهما بمعاداة الإسلام والتطرف ضد المهاجرين، بطريقته. أُثيرت قبل أشهر ضجة حول مارشال، الممول الكبير، صاحب تلفزيون "جي بي" الذي يقف إلى يمين وسائل الإعلام البريطانية ويستثمر "مواهب" سياسيين شعبويين ووزراء محافظين سابقين. فقد كشفت منظمة "الأمل لا الكراهية" البريطانية المعادية للعنصرية عن "مباركته" تغريدات تدعي أن بريطانيا ستشهد "حرباً أهلية" بسبب توافد مهاجرين "مزيفين" مسلمين يعملون على انتزاع المملكة المتحدة من أهلها وتحويلها "دولة إسلامية"!
ارتفعت حينذاك الأصوات للتنديد بهذه المواقف المزعومة، والتحذير من مغبة السماح له بالاستحواذ على صحيفتي "التلغراف" ومجلة "سبيكتاتور"، في سياق مساعيه لبناء امبراطورية إعلامية. إلا أن شيئاً فعلياً لم يحصل للتحقق من تأثير امبراطوريته الذي يعتبره البعض "ساماً". ولا يزال في طليعة المنافسين على الصحيفتين بعدما استحوذ على المجلة. وسواء نجح في اقتناصهما أم لا، فهو يمضي قدماً بغرض تكريس هيمنته على صوت الجناح المتطرف في حزبي "المحافظين" و "الإصلاح" الذي يتزعمه النائب نايجل فراج، وهو من العاملين لديه في تلفزيون "جي بي".
من المؤكد أن غوف هو من أفضل الصحافيين الناجحين الذين يناسبون طموحات مارشال ويشاطرونه الأفكار والأهداف ذاتها. وبعيداً عن التوافق التام بينهما بشأن البريكست، فقد وضع غوف، الصهيوني الأصيل، في العقد الأول من هذا القرن كتاباً روّج فيه لمعاداة الإسلام ولنظرية الاستبدال الكبير، كما ظلّ يستهدف المسلمين والمهاجرين حتى آخر نبض في حياته الوزارية الطويلة. ولئن كان من السهل تبين سمات الخط السياسي الجديد للمجلة، فإن غوف، صاحب الباع الطويل في الصحافة المكتوبة، لم يكشف عن أوراقه حتى الآن بما يتصل بالتعديلات البنيوية وتطوير المحتوى، وكيفية النهوض بالمطبوعة التي تراجعت أرقام مبيعاتها، شأنها شأن المجلات والصحف كافة.
وخلافاً لغوف، فإن الإعلامي المعروف جيمس هاردينغ الذي يقود محاولة شركة "السلحفاة" لتملك صحيفة الأحد، ناقش بشيء من الشفافية مشروعه لإعادة إحياء "أوبزرفر". وهو يحمل بذور التجديد البنّاء، ما قد يمهد لإعادة ترتيب الأولويات في ساحة الإعلام البريطاني وربما غيره. وطبيعي أن يكون العمل على تقريب الصحيفة من القارئ أحد أهم مرتكزات البرنامج باعتبار أن تراجع شعبية المطبوعة وتراكم خسائرها هما ما حفز أصحابها على بيعها.
تنطوي الخطوط العريضة لأفكار هاردينغ على تثوير طرق توجه الصحافة المكتوبة لجمهورها. الايجاز والسرعة اللذان اعتبرا لسنوات عنوان النجاح بالنسبة الى الصحافة المكتوبة، خصوصاً، لم يعودا صالحين في عصر الذكاء الاصطناعي والاعلام الرقمي ووسائط التواصل الاجتماعي، حيث يجد المرء ما يكفي ويزيد من المنتجات الاعلامية القصيرة والسريعة التي كثيراً ما تكون كطبق طعام شهي لم ينضج تماماً أو لم يدرس الطاهي بشكل متأن مذاقه وشكله.
وهاردينغ يعتزم التأسيس لـ "الصحافة البطيئة"، من خلال الجمع بين الرقمي والمكتوب والمسموع (بودكاست وراديو) والمرئي. ولعل جوهرة التاج في مقترحات هاردينغ هي ما يسمى بمواد" القراءة الطويلة"، والتقارير الاستقصائية والدراسات الاستشرافية، وكلها من النوع الذي يستغرق إعداده الوقت الطويل نسبياً والجهد المتأني. وهذه وصفة جديدة، باتت بعض عناصرها في السنوات الأخيرة حاضرة بقوة في الاعلام البريطاني وغيره. لكن الباقة بكليتها ومكوناتها المتفاعلة ووتيرة التجديد فيها، تمثل معاً مغامرة طموحة قد تعيد الثقة بالصحافة المكتوبة. وإذا نجحت المغامرة ستثبت أن جورج أورويل، وهو أحد كتاب "أوبزرفر"، كان على حق حين وصف الصحيفة بأنها "عدوة الهراء".