في أيلول (سبتمبر) 1964 عقدت قمة عربية استمرت نحو أسبوع، بدعوة من الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، عُرفت بقمة الاسكندرية. في بيانها الختامي الصادر في الحادي عشر من الشهر نفسه، شرحت القمة هدفها: "أجمع ملوك ورؤساء دول الجامعة العربية على تحديد الهدف القومي في تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني، وعلى الالتزام بخطة العمل العربي المشترك، سواء في المرحلة الحالية التي وضعت مخططاتها أم في المرحلة التالية التي تقرر الإعداد لها". كانت "خطة العمل العربي المشترك" إشارة إلى أول تنسيق عربي عام ضد إسرائيل أنتجه مؤتمر قمة آخر سبقه بسبعة أشهر عقد في مصر أيضاً في كانون الثاني (يناير) 1964، مؤتمر القاهرة، بدعوة من عبد الناصر. كان السبب المباشر لعقد هذا المؤتمر، الذي يعتبر تأسيسياً رسمياً لما أصبح يُعرف واسعاً على مدى العقود التالية بمركزية القضية الفلسطينية بوصفها قضية العرب الأولى، تقنياً ومحدوداً: الرد على سعي إسرائيل لتحويل جزء من مياه نهر الأردن التي تصب في بحيرة طبريا، عبر بناء قناة مائية ضخمة ومعقدة بطول 130 كيلومتراً، لأغراض الشرب والإرواء، الأهم بينها إحياء مناطق صحراوية في النقب. عارضت الدول العربية الـ 14 المشاركة في القمة بشدة هذا المشروع لأن استصلاح المزيد من الأراضي الزراعية في اسرائيل يعني جلب المزيد من المهاجرين اليهود وإضعاف احتمالات العودة للاجئين الفلسطينيين، بحدود 700 ألف شخص، الذين طردت معظمهم إسرائيل في أثناء حرب 1984.
تضمنت خطة العمل العربي المشترك التي تمخضت عنها قمة القاهرة وعبرها رُسِّخت رسمياً ومؤسساتياً مركزية القضية الفلسطينية، بضعة أمور. الأبرز بينها هو تجاوز العرب خلافاتهم، خصوصاً بين الدول "التقدمية" الجمهورية و"الرجعية" الملكية، لتحقيق هدف التحرير على أساس اقتراح من عبد الناصر نفسه بأن تتولى الأولى مهمة القتال فيما تتولى الثانية مهمة التمويل (وافق على الاقتراح الملك سعود بن عبد العزيز الذي أعلن وقتها تبرع السعودية بـ 40 مليون دولار لهذا الغرض)، وتوحيد قيادة الجيوش العربية، وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، بزعامة أحمد الشقيري، كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، فضلاً عن تأكيد القمة، بحسب بيانها الختامي، على أن "العرب في موقفهم الدفاعي العادل سينظمون علاقتهم السياسية والاقتصادية بالدول على أساس مواقفها من كفاح العرب المشروع ضد المطامع الصهيونية في العالم العربي . . .".
كان الهمّ الأساسي للعالم العربي وقتها، شعوباً ودولاً، هو محو "عار" هزيمة حرب 1948 التي شهدت عجز خمسة جيوش عربية (العراق، لبنان، الأردن، مصر وسوريا) في هزيمة اسرائيل وإنهاء وجودها، بعد إعلانها عن نفسها كدولة في 15 أيار (مايو) 1948 على أساس القرار الدولي المعروف للأمم المتحدة 181 بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وإبقاء القدس كمنطقة خاضعة للإشراف الدولي. مَثَّلت هذه الهزيمة صدمة هائلة عربياً، سياسياً وثقافياً، فُسرت معظم أسبابها على نحو مؤامراتي خلاصته تواطؤ غربي لصالح إسرائيل، مَنعَ أنظمة سياسية عربية "عميلة" وفاسدة، من العمل بجدية لتحقيق نصر عسكري عربي بدأ مضموناً قبل شن الحرب.
في ظل ظروف الغضب العام والرغبة القوية بالثأر من هزيمة مذلة، برز عبد الناصر، بعد إدارته الشجاعة لأزمة السويس في 1956، وتصديه الناجح لما عُرف بالعدوان الثلاثي (البريطاني – الفرنسي - الإسرائيلي) ضد مصر رداً على تأميم الأخيرة قناة السويس وانتزاعها من المِلكية والإدارة الفرنسية والبريطانية المشتركة لها وجعلها مصريةً خالصة. صنع نصرُ السويس في ذلك العام زعامة عبد الناصر ليتحول الرجل في خلال أشهر قليلة من قائد مصري لانقلاب عسكري لقي ترحيباً عادياً بوصفه ثورة ضد المتسببين بهزيمة 1948 الى زعيم قومي عربي استثنائي بنفوذ سياسي وشعبي هائل سيقود العرب في معركة التحرير الكبرى التي ستنهي إسرائيل وتمحو عار 1948.
في الثامن والعشرين من أيار 1967 وقف عبد الناصر واثقاً أمام صحافيين عرب وأجانب في سياق القلق الدولي المتصاعد حينها من اندلاع حرب جديدة بعد تحشيد مصر عشرات الآلاف من العسكريين على الحدود مع اسرائيل، وطلبها رسمياً مغادرة قوات الطوارئ الدولية من سيناء الفاصلة بين القطعات المصرية والإسرائيلية وإغلاقها مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية ما حرم اسرائيل من معظم امداداتها النفطية التي كانت تأتيها من إيران الشاهنشاهية لتفرض مصر بذلك حصاراً كاملاً على ميناء إيلات الإسرائيلي في الجنوب. كان هناك تحشيد عسكري شبيه أردني وسوري على الحدود مع اسرائيل، في إطار تحالف عسكري بين الدول الثلاث انضم له العراق تالياً، هدفه شن "حرب التحرير" للقضاء على إسرائيل. في ذلك المؤتمر ألقى عبد الناصر كلمةً عن الحقوق العربية والانحياز الغربي لصالح إسرائيل. رداً على سؤال لصحافي غربي بخصوص إمكانية التسوية مع اسرائيل والتعايش معها في ظل رفض الدول الكبرى السماح بالقضاء عليها، أجاب عبد الناصر "نحن أصحاب حق وحينما نكون أصحاب حق لا تهمنا الدول الكبرى. الدول الكبرى تقرر في بلادها، لسنا تحت وصاية دول كبرى، ولسنا تحت وصاية دول صغرى. حقوق شعب فلسطين يجب أن تعاد إلى شعب فلسطين ولا نقبل أي أسلوب للتعايش مع إسرائيل. يجب أن تعود حقوق شعب فلسطين للشعب الفلسطيني، الذي حصل في 1948 أصله عدوان، عدوان على الشعب الفلسطيني". بدا حينها واضحاً تمسك الرجل بالذهاب الى آخر الشوط ضد إسرائيل وسط حماسة عربية شديدة وداعمة لخوض مواجهة عسكرية نهائية…
بعد هذا المؤتمر بأسبوع تقريباً، شنت إسرائيل هجوماً استباقياً صاعقاً دمرت فيه القوة الجوية المصرية، وعلى مدى ستة أيام قاسية وعصيبة، من الخامس من حزيران (يونيو) إلى العاشر منه، ألحقت هزائم مذلة بالجيش المصري والأردني والسوري، واحتلت صحراء سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس والجولان. أنهت هذه الحرب، التي سُميت عربياً "نكسة حزيران"، زعامة عبد الناصر القومية وإلهامه القيادي في العالم العربي، حتى وإن كان الرجل غادر منصب الرئاسة المصري بموته بعد تلك الكارثة بثلاث سنوات، نهاية أيلول (سبتمبر) 1970. مع نهاية تلك الحرب انتهت معها عملياً النسخة القومية العربية للتحرير، تحرير فلسطين، التي اتخذت عنوان التضامن العربي، هذا التضامن الذي أنتجته مؤسساتياً قمة عربية في الستينات بإلهام مصري استثنائي، لينهار سريعاً تحت وقع تفوق السلاح والتخطيط الإسرائيليين. خرجت مصر، تحت زعامة رئيسها أنور السادات، من هذا "التضامن العربي" الذي اعتبرته غير مجد وفاقداً للواقعية والتأثير المطلوبين رغم أنها كانت رائدته وعماده، لتصنع سلامها الخاص مع اسرائيل عبر اتفاقيات كامب ديفيد في 1979، وتسترد أرضها المحتلة لاحقاً وتنهي حرباً مفتوحة ومكلفة ضد اسرائيل. اعتبر العرب الذين بقوا في إطار "التضامن العربي" السادات خائناً واحتفلوا بموته اغتيالاً على يد متطرف إسلامي في تشرين الأول (أكتوبر) 1981. كان هذا المتطرف الإسلامي، الذي أعدم لاحقاً، يشير إلى مرحلة قريبة مقبلة يتصدرها الإسلام السياسي بتنويعاته المختلفة مذهبياً واستراتيجياً، من دعاة العنف تحت مسميات "الجهاد" إلى دعاة السياسة تحت مسميات "الواقع"، أو الخلط بين الاثنين حسب الحاجة…
نشهد هذه الأيام نهاية شبيهة، قاسية وسريعة وصاعقة، للنسخة الإسلامية للتحرير، القائمة على تضامن إسلامي مفترض تزعمته إيران الجمهورية الإسلامية بحِربته الأمْضى والأقوى، "حزب الله" اللبناني. على مدى 11 يوماً بين 17 من أيلول الفائت إلى 27 منه، فجرت اسرائيل آلاف أجهزة الاتصال بأيدي عناصر ومؤثرين وقادة ميدانيين وصفّت معظم قياداته العليا، وصولاً إلى اغتيال زعيمه السيد حسن نصرالله، فيما كانت في تلك الأثناء تقوم بحملة قصف جوي شرسة تستهدف مواقع الحزب العسكرية. لم تنته الحملة العسكرية الإسرائيلية بعد في ظل الاجتياح الحالي لجنوب لبنان لتفكيك الآلة العسكرية للحزب المتمركزة هناك.
هذه أيام صعبة وقاسية، لا تختلف كثيراً عن أيام حرب حزيران 1967 عندما قضت اسرائيل على المشروع القومي للتحرير. هي الآن تقضي، بشراسة هائلة ومرعبة، على المشروع الإسلامي للتحرير. فـ"حزب الله"، التنظيم الإسلامي الأقوى في هذا المشروع، يمثل "مصر" الناصرية في أوج قوتها، وبقتل اسرائيل السيد نصرالله على النحو المريع والمشهدي الذي فعلته هي قتلت "عبد الناصر" الإسلامي... لن يمكن استبدال نصرالله، بالرمزية التي مَثّلها والكارزمية التي حملها وبالتاريخ الذي صنعه. لكن هذه أقل خسائر مشروع التحرير الإسلامي، فالمشروع نفسه في طور الانهيار الذي تتسارع خطواته، فيما يبقى سؤال البديل مبكراً جداً، بل بعيداً، في منطقة اعتادت تأخير إثارة الأسئلة المهمة والحرجة وتأجيل التعلم من الدروس الصعبة والخسارات المريرة…