سننتظر عشرين عاماً أو أكثر لنعرف حقيقة التدمير الذي أحدثه الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل وحجم الخسائر العسكرية والمدنية في القواعد المستهدفة والعمران المدني في تل أبيب وغيرها من المدن والمستوطنات المستهدفة بالصواريخ الإيرانية الفائقة السرعة. فالمؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية الإسرائيلية تفرض حظراً شاملاً على بث أي معلومات عن الأماكن المصابة والخسائر والتداعيات، فهي حتى الآن لم تفرج عن كل المعلومات عما أصابها في حرب تموز (يوليو) 2006. إسرائيل تعتمد استراتيجية الإخفاء في كل حروبها، ثم التدرج في الإفصاح عن المعلومات، أولاً لعدم إثارة الذعر في أوساط المستوطنين المستعدين فوراً للمغادرة، وثانياً لإظهار نفسها غير متأثرة ولإيهام أعدائها بأن هجماتهم لم تنجح في تحقيق أهدافها.
تدعي إسرائيل أن الهجوم الصاروخي الإيراني فشل في تحقيق أهدافه وتم التصدي له بنجاح، فيما تؤكد طهران أن الهجوم حقق أهدافه كاملة وأصاب قواعد عسكرية وجوية إسرائيلية إصابات مباشرة، لكن في هذه الحرب يحمل الهجوم الإيراني دلالات أبعد بكثير من مجرد إحصاء عدد القتلى والجرحى والقواعد والمؤسسات المصابة.
النقطة الأولى التي يجب التوقف عندها هي أن إيران قررت أخيراً أن ترد، أياً كانت النتائج، على التمادي الإسرائيلي في ضربها مباشرة أو غير مباشرة. منذ سنوات، وقبل حرب غزة، شنت حرباً على إيران فقتلت علماءها في قلب طهران، وقيادات حرسها الثوري في سوريا، وقيادات أذرعها في سوريا ولبنان وفلسطين، وبعد كل ضربة كانت إيران تهدّد ثم تبتلع الصدمة وتتخلف عن الرد الذي لم يأت مباشرة إلا مرة واحدة في نيسان (أبريل) الماضي في شكل هجوم جوي حكي كثيراً أنه كان محدوداً ومنسقاً مع الأميركيين في إطار الحفاظ على قواعد الاشتباك، ومرّ من دون أن ترد عليه إسرائيل.
النقطة الثانية وهي مرتبطة بالأولى، أن إيران تأخرت كثيراً في الرد على إسرائيل والدخول في الحرب، هذا التأخر الذي كلفها كثيراً على المستوى الشعبي في المنطقة العربية، وتحديداً في العراق وسوريا ولبنان حيث علت الأصوات المنددة بـ"تخاذل" إيران وتخلفها عن الرد على الهجمات عليها وعلى جماعاتها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، عدا عن المهانة التي لحقت بها على المستوى الداخلي والعالمي. هنا لم يعد أمام إيران مفر من الرد في محاولة لردع إسرائيل عن التمادي في استهدافها ولترميم صورتها التي تهشمت جراء سياسة الصبر الطويل. هل تنجح في مهمتها؟ هذا متروك للأيام.
النقطة الثالثة هي أن إيران ألغت خلال اليومين الأخيرين مفاعيل انتخاب الإصلاحي مسعود بزشكيان رئيساً لها. عاد المرشد والحرس الثوري ليمسكا القرار بيد من حديد. لم تلتقط أميركا وإسرائيل فرصة التغيير في إيران باتجاه الانفتاح على الغرب، وخصوصاً على أميركا، واستعدادها للمساومة في قضية الحرب على غزة وحرب المشاغلة على الحدود اللبنانية. رضيت إيران بصفقة لوقف الحرب على غزة بناء على مبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن، لكن الأخير وإسرائيل خدعا إيران وتنصلا من اتفاق كان وصل إلى مراحله الأخيرة. شعرت إيران بالمرارة والخيانة حتى، جراء مخادعة بايدن وتصلب نتنياهو وجنونه.
سحب الخامنئي والحرس الثوري القرار من بزشكيان، الرئيس الذي ذهب سريعاً جداً في التودد إلى الأميركيين إلى حد ممالأتهم معتبراً إياهم أخوة للإيرانيين. بزشكيان نفسه الذي كان يخطط لفكرة الانسحاب التدريجي من التورط في حروب المنطقة والانكفاء إلى الداخل تحت شعار "إيران أولاً" لم يعد أمامه سوى الانضمام إلى محور الصقور في إيران مهدداً ومتوعداً إسرائيل على طريقة خامنئي وقادة الحرس الثوري الذين يريدون تدمير إسرائيل في سبع دقائق ونصف. أجبر على ذلك أم لم يجبر، النتيجة هي أن الحكم في إيران عاد في هذه المرحلة كلياً إلى حضن المرشد وحرسه المتشدد.
لقد تمادى نتنياهو في إذلال إيران وتحديها، وسيستمر في ذلك. لقد تخطى في وحشيته على غزة ولبنان كل الخطوط الحمر السياسية والإستراتيجية والإنسانية. وصل به غروره وصلفه إلى حد زعم أنه يقيم شرق أوسطاً جديداً. نصب نفسه حاكماً للمنطقة ومتصرفاً بحدودها وتشكيل أنظمتها، وهو ما سيصل إلى إيران حتماً. لم يجد نتنياهو من يردعه لا من الغرب ولا من الشرق، على العكس وجد رئيساً أميركياً "ديموقراطياً" يسترضيه فيما يظهر تعارضه معه، فالانتخابات الأميركية بعد شهر ويتسابق المعسكران الديموقراطي والجمهوري على استرضاء نتنياهو سعياً إلى استقطاب أصوات اليهود ونفوذهم في أميركا.
الحرب الإقليمية بدأت وتتوسع، لقد فرض نتنياهو خياره على إيران وجماعاتها في المنطقة: الاستسلام أو الحرب. لكنه عملياً لم يترك لها إلا الحرب.