النهار

لِمَ أنتَ هنا؟
في المقابل، لا بدّ من طرح السؤال: كيف تعاملتُ مع هذا الزرع؟
A+   A-

الاب ايلي قنبر 

في أحد الأيّام تحدّث يسوع الناصريّ عن مَثل الزارع. وفيه أنّ زَرعًا سقَط في أماكن مختلفة. وأنّ الذي "سَقَطَ في ٱلأَرضِ ٱلجَيِّدَةِ، َلَمّا نَبَتَ أَثمَرَ مِئَةَ ضِعف" ولكن "بالصَبر"(لوقا 8: 15). 
تكلّم يسوع بالأمثال مُحترِمًا ذكاء الإنسان. إذ "المعلِّم الحقيقيّ، يقول بوذا، يَخلق معلِّمين حقيقيِّين اَخَرين و ليس أتباعًا. فهُو يَردّك إلى ذاتك، ويَبذُل جُهده لأن يَجعلك مُستقلًّا عنه.
في المقابل، لا بدّ من طرح السؤال: كيف تعاملتُ مع هذا الزرع؟ وهل اعدَدتُ أرضي لاستقباله؟ وهل عملتُ بجدٍّ وصبرٍ لإنمائه ليُعطي ثمرًا، ومن ثَمّ استثماره للصالح العام وليس لي وحدي وحسْب؟
الزمَن الحاضر يتطلّب منّا أيضًا أن نتساءل: هل كنتُ من الّلواتي والذين يعرفون ماذا يُريدون من الحياة، وكيف يُخطِّطون لابتغائه والحِفاظ عليه وإنمائه بالصبر ؟ وهل كنتُ ساهِرًا كي لا يدخل مُخرِّبٌ للعَبَث بِما زرعتُ وتكبيدي خسارة كلّ شيء ؟ غالبيّة الناس تعيش بِلا رؤية وبِلا هدف وبلا تساؤل، تعيش حياةً نباتيّة ليس إلَّا. وحين يُؤحّذون على حين غَرّة، يصرخون عاليًا: ما ذنبنا كي نُنال هذه القَسوة وهذا الظلم؟ لِمَ نحن مَتروكون لقدَرنا؟ في حين عليهم التساؤل ضميريًّا: لّمَ أنا هُنا؟ عمّا أو عمَّن أبحث؟ هذا ما أسَرَّ به القدّيس برنردُس: "البحث الحقّ (يكون) حيث يلتزم الكائن ليس من اجل شيءٍ ما بل من أجل أحدٍ ما: الله"، والقريب-وجهُ الله. هل نبحث عن الالتزام بالله والقريب؟ وما الذي نجنيه من التزام  كهذا؟
إذا نظرنا إلى الإنسان العادى، نجده "يَرفض الحريّة، و لا يُريد أن يكون حُرًّا بل يُريد الإتِّكال على أحدهم دائمًا، و يحتاج إلى شخص اَخر يَتبعه". ويتساءل بوذا: لماذا؟ "لأنه، وبكلّ بساطة، يَستطيع بهذه الطريقة أن يَرمى المسؤولية على عاتق شخص اَخَر". ويُضيف: "كُلَّما حمَّلت الاَخَرين المسؤوليّة، كلَّما تضاءَلت إمكانيّة ذكائك. تحمُّل المسؤوليّة هو الذى يَخلق الحكمة". فلنتذكَّر أنّ "الحياة فرصة للبحث عن أنفسنا وإيجادها". صحيح؟
2. الحاقد يُدمِّر نفسه بتَدمير الآخَرين
قرَّر رؤساء الكهنة والسِنهدْرين في "مَجمع جَمْنِيَا"[  مجمع جَمنِيَا انعقد تحت قيادة يوحنّان بن زكّاي، وذلك مقاومةً لانتشار المسيحيّة القويّ بين اليهود، ودخول كثير من اليهود الي الايمان المسيحي. وقد كان هدفه ايضًا وضع قواعد لمُهاجمة هذا الفكر عن طريق التشكيك فيه وفي وطهارة المسيحيين وأيضًا التشكيك في الترجمه السبعينية.] أنّ المسيحيّين هم وراء قرار الوالي تيطُس هدم هيكل أورشليم-القدس سنة 70م. مُتناسين أنّ عُنفهم ضدّ الأمبراطوريّة هو السبب في سُقوط حُكمهم الذاتيّ وتدمير هَيكلهم-رمز السلطة اليهوديّة. وألّفوا أدعية ضدّ المسيحيّين، ولم يأنفوا، مُذ ذاك، من الاقتصاص[  هذا ما آلتهُ على نفسها الصهيونيّة العالميّة منذ تأسيسها ولمّا تزَل] منهم بطرُق شتّى.
إذا تبصّرنا اليوم، بعد "عمليّة طوفان الأقصى"، في وحشيّة مَن يقصف بِلَا هَوادة وبِلًا تمييز، غير آبِه بالناس وبميثاق الأُمم المتَّحدة وباتّفاقيّات جنيڤ الدُوَليّة والمحكمة الدُوَليّة -وما صدَر عنها من احكامٍ بحَقّ الوحش تقضي باعتقاله عبر الأنترپول الدُوَليّ- نجد أنّ العُنف الذي يتعاملون به مع "أعدائهم" يتَكرّر وبوَحشيّة قِياسيّة لم يَعرفها تاريخ البشريّة قَطّ، وبِحقدٍ لا يوصَف. كيف تفسير هذه السُلوكيّة المرَضيّة؟
لقد علَّم بوذا أنّ "كلّ حَرب يَسعى فيها الإنسان إلى قَتل أخيه هي مُؤسِفة". غير أنّ ما لا يَفهمه الحاقِد -الذي يُقيم الحرب على أخيه- هو أنّ "الحِقد[  كتاب"أصوات قلَبَت العالم"] يَسري مِثل السرَطان. وإذا لم يتمّ وَقفه، بإمكانه أن يَغزو بلادًا بأكملها، والعالمَ بأسره". هذا التَوصيف يَنطبِق على "المُدمِّر"[  TERMINATOR] أعلاه. إذ هو يرى وُجوب أن يكون الناس "عبيدًا" لدَيه، يُنفِّذون أوامره لأنّهم "حيَوانات بشريّة" كما جاء في أدبيّاته الدينيّة، الأُسطوريّة والتاريخيّة، وفي تعامُله الفِعليّ. "ولذا، فإنّ الحاقد[  كتاب"أصوات قلَبَت العالم"] لا يَفهم أنّه بتَدمير الآخَرين، فإنّه في الواقع يُدمِّر نفسَه. أظهِروا النتيجة، يقول الكتاب. فلَا تُوجَد مَفخَرة في قَتل الناس، وليسَت هُناك مَفخرَة في الحَطّ من قيمة الناس. وهذه أُمثُولة مُهِمّة جدًّا". ويُضيف، في مكانٍ آخَر: "يهدأ البُغض ويَستكين بإزالة البُغض نفسه. هذا هو القانون الخالد". كيف تقرأ(ين)؟
3. "ويُثمرون بالصَبر".
"لا تُحاول التَميِيز بين مَن هو فاضِل ومَن ليس فاضلًا. فَليكُن جميع الناس مُتساوين بنَظرِك لتُحبّهم وتخدمهم، يُشير القدِّيس اسحَق السُريانيّ. فتتَمكّن عندئذ من حَثِّهم جميعًا على عمل الخَير"[  إسحَق السريانيّ (القرن السابع)، راهب في نينوى بالقرب من الموصل، أحاديث نسكيّة، السلسلة الأولى، الرقم 81]. لهذا علَّم يسوع، قال: "أنتُم نورُ العالم". لأنّه "إذا كُانت عينك شرِّيرة، فجسَدك كلُّه يكون مُظلِمًا"(متّى 6: 23). يقابله تعليم لبُوذا: "كونوا نوراً لأنفسكم، فتُصبحون حُكماء". بينَما في جعل الاَخرين "قوّادًا لنا ومُرشِدين و مُوجِّهين، نبقى أغبياء إلى الأبد، ونمضي حياتنا نهدر كلّ ما فى الدُنيا من ثَروات هي في الأساس مُلك لنا".
المُساواة بين جميع الناس نتعلُّمه من الآب (متّى 5: 45). وتلك المُساواة تدعونا لحُب الجميع وخِدمتهم، ليتسنّى لنا حثِّهم "على عمل الخَير". يُحفِّزنا على ذلك  أَنّنا "قَد أُعطينا مَعرِفَةَ أَسرارِ مَلَكوتِ ٱلله"، فلَا يسَعنا تجاهل الأمر. لذا قال بولس" وَليَتَعَلَّم ذَوونا أَيضًا أَن يَقوموا بِٱلأَعمالِ ٱلصّالِحَةِ لِلحاجاتِ ٱلضَّرورِيَّةِ، حَتّى لا يَكونوا بِدونِ ثَمَر". لأنّ "ٱلمُباحَثاتُ ٱلسَّخيفَةُ... وَٱلخُصوماتُ وَٱلمُماحَكاتُ... فَٱجتَنِبها. فَإِنَّها غَيرُ نافِعَةٍ وَباطِلَة".
قال بوذا:"إن الحياة رحلة طويلة رائعة الجمال، ولكنّ جمالها حَصريّ للمُستعِدِّين للبَحث والتفتيش"، وذلك "بالصبر"(لوقا 8: 15). ماذا تقول(ين)؟

 

اقرأ في النهار Premium