سعد نسيب عطاالله
في ظهيرة يوم الاثنين الواقع في الحادي والعشرين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2024، كنت جالساً على شرفة منزلي المطل على ربوة تعلو بتدرج عادي نحو أربعمائة متر فوق ساحل بلدة انطلياس صارت تعرف بـ"الربوة"، التي لا تزال تسميتها لدى أهالي نابيه بـ"تلة ضهر المغر"، نسبة إلى وجود مغارة في لحف واجهتها الشرقية الصخرية.
لا توجد لدى الدوائر العقارية لحينه منطقة عقارية مستقلة تحت مسمى الربوة، لأنها تتشكل عقارياً من أجزاء متجاورة لبلدات متنية متجاورة عقارياً، هي نابيه، وانطلياس، وقرنة شهوان.
ارتفع في الجو أمامي دخان احتراق في حرج، تحت المغارة بنحو عشرين متراً، لا يعدو كونه حريقاً موضعياً ضيقاً. بقي الحريق موضعياً لنصف ساعة من الزمن إلى حين وصول آليات الدفاع المدني، التي توقفت على طريق الإسفلت الذي لا يعلو أكثر من خمسين متراً عن موقع الحريق.
استمر الطقس هادئا قرابة الساعة، بعد وصول الآليات، لكن الحريق ارتفع صعوداً نحوها، دون القيام بأي عملية إطفاء، بسبب وجود انحدار معتدل، لا يسهل سلوكه أمام الناس العاديين.
لكن التبدل المناخي السريع والمعهود، لم يفسح المجال لاحتواء النار في مساحة محدودة ضيقة، إذ هبت رياح جنوبية أدت إلى انتقال الحريق أفقياً وشمالاً نحو الأحراج، ما أدى إلى انطلاقته المفاجئة لالتهام الأخضر واليابس، بسبب جفاف أوراق الخريف، المتراكمة فوق بعضها البعض على مدى عقود طويلة.
حل ليل بهيم أضاءته أنوار نيران الغضب الجهنمي على مسافة ازدادت توسعاً والتهاباً واحتراقاً.
امتطى هذا الحدث الجلل ذاكرتي وأعادني إلى سنوات الطفولة، حين عاد المرحوم والدي وقتئذ من الحقل، وثيابه ممزقة ملوثة بروائح الدخان، الأمر الذي دفعه إلى الإقرار بأنه أطفأ حريقاً شب في حرج أملاكه على تلك الربوة، الأمر الذي حرك نخوته وعزيمته والذهاب بمفرده لإطفائه، وعدم قدرته على طلب المساعدة من أحد جيرانه في الحقل، لندرة وجودهم حينئذ.
لم يكن والدي بطلا ًأولمبياً، ولا ملاكماً، ولا مصارعاً، لكن كان يمتاز ببنية جسدية نشأت جراء قيامه اليومي في استصلاح الأرض وتشجيرها، على مدى عقود.
استطاع الوالد محاصرة الحريق الموضعي، خلال وقت لا يتعدى الساعة، ومنع امتداده، وحمى الأحراج المجاورة من الاحتراق والفناء، الأمر الذي لم تحل دون ذلك فرق الدفاع المدني منذ يومين.
تدفعني شرارة تلك الذاكرة البعيدة، إلى تسطير تساؤلات عديدة ومتعددة حول كفاءة إدارة الدفاع المدني واستراتيجياتها في إخماد نيران حرائق الغابات أولاً، وسواها أيضاً.
أبدي أولاً كل التقدير والشكر لأفراد ومتطوعي الدفاع المدني، وإلى المشقات التي يواجهونها، بالرغم من الإهمال الرسمي المتمادي لهم ولإنجازاتهم الموصوفة.
ثانياً، يبدو للقاصي والداني أن عناصر ومتطوعي الدفاع المدني يفتقرون إلى التدريبات المتخصصة، من أجل تأهيلهم للقيام بمهماتهم العديدة والمتعددة على أكمل وجه.
ثالثاً، إن مهمة فرق الدفاع المدني لا تقتصر على إطفاء حرائق الغابات والحقول، والمصانع، والمنازل، ولا على انتشال الضحايا والأحياء من تحت الركام والأنقاض، إنما استعدادهم الفوري والناجز لإتمام هذه المهمات الصعبة والمفاجئة.
رابعاً، أين هي التدريبات على إخماد حوادث النيران المختلفة، وخاصة تلك المتعلقة بالأحراج والغابات؟
أين الطوافات التي تنقل المظليين على وجه السرعة، لاحتواء حرائق الأحراج، وخاصة تلك التي تحصل في المنحدرات القاسية؟
أين الحبال والملاقط والمعدات اليدوية التي تسهل نزول وتسلق العناصر للمرتفعات الجبلية؟
أين عضلات العناصر الأشداء الذين لا تصعب عليهم مهمات قطع الهشيم والأشجار من أمام غضب النيران ولؤمها؟
خامساً، ليس نقل المياه في حاويات ضخمة هو من مهمات العناصر الأساسية، بل إن السوائل وتوفرها ضروري لاحقاً بعد إطفاء الحرائق لتبريد الأرض وما عليها.
سادساً، مشكورة طلعات طوافات الجيش، وتلك التي قدمتها الدولة القبرصية للمعاونة والمساعدة، ومدها نهرا جويا على جسر متواصل للطوافات وطياريها، لكنه كان بالإمكان السيطرة على النيران ومنع انتشارها لو كان عناصر الدفاع المدني مؤهلين ومستعدين للوصول إلى موقع شرارة النيران بواسطة الحبال والمعدات البسيطة، أو بالهبوط في مظلات من طوافة متطورة تكون دائماً في عهدتهم.
ليس الوقت الآن لتبديل الطاقم الإداري المقصّر، إنما عليهم مراجعة معرفتهم بأمور الدفاع المدني، واللجوء إلى الاختصاصيين العالميين في هذا المجال الحيوي والخطير.
باختصار، ليس المطلوب تجهيز الدفاع المدني بآليات حديثة فقط، بل بفرق ومتطوعين متخصصين في شتى مجالات الإغاثة والحد من الأضرار الخاصة والعامة.