"إِلَيكَ يا رَبُّ أَصرُخ، إِلَهي لا تَتَصامَم عَنّي" (مزمور 28: 1).
الاب ايلي قنبر
1. "إِلَيكَ يا رَبُّ أَصرُخ، إِلَهي لا تَتَصامَم عَنّي" (مزمور 28: 1).
بهذه الكلمات من كتاب المزامير اليهوديّ والمُشترَكة بين الأجيال والمطارح، يُعبِّر الإنسان عن مُعاناته الشديدة وعن وِحدته الجليديّة. يصرُخ ولا من مُجيب.
إنسانٌ مَتروكٌ لِقدَرِه، تتَجاذبه الأفكار السَوداء وتتَقاذفه وتَصرعُه بعيدًا من بَرِّ الأمان. وقُبَيل الانحلال يتلفَّظ بهذه الكلمات:"إلَهي، إلَهي، لماذا ترَكتَني؟" (مزمور 22: 1)، و"يُسلِم الروح".
مَن يمُرّ بتلك التجربة المُرَّة من شعوب الأرض، اليوم؟
التجربة الأشدّ ضراوة هي ما يختبره الفِلِسطينيّ في روحه ونفسه وفي جسده وفي أرضه: إبادة جَماعيّة، ترانسفِير، تدمير المساكن والمُستشفيات والمؤسَّسات، ترويع، تَجويع، منْع الأدوية والمياه عنه، محاصرته بالدبّابات...
والثانية التي تُشبهها تجربة اللُّبنانيّ المُروِّعة نفسيّا والدمَويّة جسديًّا (قتل جَماعيّ بالقصف وعبر المُسيَّرات، الأشدّ فتكًا وغَدرًا) والتدميريّة مسكنًا ومؤسِّسات في مختلَف المناطق، واقتصاديًّا (منذ 1992)، وحِصارًا (برًّا وبحرًا وجَوًّا)...
أمّا التجربة الثالثة فهي حرب "الناتو" بوساطة الأوكران ضدّ روسيا .. حيث المُختبرات السرِّيَّة لإنتاج الڤيروسات المُميتة وتجريب الأسلحة الحديثة. كما في أفريقيا حيث يُخيِّم المصير المَجهول لشعوب لم تنعَم يومًا بخَيراتها الطبيعيّة على أنواعها، بل تعيش غالبًا في الفقر المُدقِع والموت من الجوع أو من سوء التغذية أو من الأوبئة التي تُنشر[ ڤيروس نقص المناعة المُكتسَبة؛ جدري القرود؛ جنون البقر؛ إنفلووَنزا الخنازير ...] بَينهم من قِبل المتحكِّمين بالعالم.
وأخيرًا وليس آخِرًا، إلى البُلدان التي يُحاصرها الاستعمار الوَحشيّ -المُنافي للأخلاق ولحقوق الإنسان- منذ عشرات العُقود سَواء في أميركا الجنوبيّة أو في آسيا، لا بل المُهَيمِن على الكُرة الأرضيّة.
المُشترَك في ما تقدَّم أعلاه هو الموت والخَواء جرّاء الحروب والحِصارات[ أخطرها العقوبات الاقتصاديّة والماليّة التي تفرضها الولايات المتّحدة الأميركيّة وغرب اوروپّا وبريطانيا تحديدًا]!
ومن أين تأتي الحروب والمُنازَعات فِيما بَيننا
فلنُصغِ: "ألَيسَت من هنا، من لَذّاتكم المُحارِبة في اعضائكم؟ تطلبون ولستم تأخذون، لأنّكم تطلبون رَدِيًّا لكَي تُنفقوا في لذّاتكم" (يعقوب 4/ 1-3)...
2. "نَحنُ " صُنعُ (الله)، مَخلوقينَ. لِلأَعمالِ ٱلصّالِحَةِ" (أفسُس 2:10)
يُذكِّرنا بولس الطرسُوسِيّ بأنَّا نَحنُ "صُنعُ (الله)، مَخلوقينَ في ٱلمَسيحِ يَسوعَ لِلأَعمالِ ٱلصّالِحَةِ، ٱلَّتي سَبَقَ ٱللهُ فَأَعَدَّها لِنَسلُكَ فيها" (أفسُس 2: 10). في وقتٍ يَعتقد كُثُرٌ أنّ الإنسان شرِّير "بطبيعته"[ المقصود هو الطبع، لأنّ الطبيعة تعني الصورة الأُولى التي بها صُنِعنا]. غير أنّ مُراجَعةً سريعة لِلكتاب المقدَّس تبيَّن أنّهم جهَلَة بيبليًّا. إذ يقولون إنّ الله خلَقنا على صورته، فكيف يكون الإنسان-صنيعةُ الله شرِّيرًا "بطبيعته"؟ نحن صالحون وطيِّبون وخَيِّرون بالطبيعة.
وفي رواية لوقا للإنجيل[ 8: 41-56] نَقرأ أنّ فتاةً لها من العُمر 12 ربيعًا تُشرِف على الموت، وقد جاء أبوها يُرجو يسوع أن يَدخل إلى بَيته. في الأثناء، نُتابِع أنّ امرأةً بها نزف دم منذ 12 سنة تُحاول لَمس يسوع لِتَشفى. الاثنتان تُمثِّلان الأسباط الـ12 للشعب العبرانيّ ماضيًا. في الروايتَين هناك عنصر مشترَك هو الدَّم: دمٌ ينزف بشكلٍ غير عاديّ لدى المرأة، ودمٌ توقّف عن الجرَيان لدى ابنة يائيروس التي ماتت. المرأة النازفة تمثِّل المؤمن(ة) المُخلِص(ة) الذي يذهب في إثْر المسيح[ متّى 28: 9]. والابنة تعود بنا إلى "ابنة صِهيُون": فهيَ بِلَا حياة، تنتظر، إلى وقتنا هذا، المسيح الآتي لِيُخلِّصها[ حزقيال 37: 13، 14]. النازفة منذ 12 سنة انهارَت قِواها إذ "َلَم يَستَطِع أَحَدٌ أَن يَشفِيَها"، ووَجدَت نفسها وحيدة كحال الكَيان الإسرائيليّ الراهن.
لو يَعرف بني صِهيون مَعنى الكلام التالي وقيمتَه الفِعليّة، لَأَفاقوا من سُباتِهم ووَحشيَّتِهم وإجرامِهم الفائق الوَصف، ولَقبِلوا أن يُحيِيَهم الربُّ الإلَه "القدير": "إنَّ ٱللهَ لِكَونِهِ غَنِيًّا بِٱلرَّحمَةِ... أَحيَانا مَعَ ٱلمَسيحِ"[ أفَسُس 2: 4-5]. لكنّ "غَيرتَهم لله... عن غَير معرفة" (رومة 10: 2). هل يعني كلام بولس مُتطرِّفي الكَيان الإسرائيليّ الحاليِّين، المهجوسين بالحقد والكراهيّة ونزعة الفصل العُنصُريّ واغتيال الآخَر المختلِف ؟ هل يتحرَّك ذلك الكَيان الغاصِب من تلقاء نفسه كما النازفة وبتَوبة صادقة "ويَلمس" يسوع فيَبرأ لِلحال؟
2. "يَقولُ لِلرَّبّ: أَنتَ ناصِري وَمَلجَأي، إِلَهي ٱلَّذي عَلَيهِ أَتَوَكَّل" (مزمور 91: 2)
منذ غابر الأزمان، أوجَد الإنسان آلهةً تَستجيب لإرادته وتخضع لنَزواته أو بعض البشَر المُؤَلَّهين. حتّى بعدما كشَف الله لهُ عن وَجهه الحقّ ككائنٍ تجاوُزِيٍّ، كـ"المُختلِف" بالمُطلَق، أصرّ أتباع التقوى الشعبيّة على الاعتقاد بالخُرافة[ البابا بولس السادس، "التبشير بالإنجيل": "تشوّه الدين وتبقى أحياناً كثيرة على مستوى التقاليد والعادات والثقافات الشعبية المتوارثة بدون ان تُطلب التزاماً صريحاً بالإيمان حتى انها تقود أحياناً إلى الإنخراط في الشيع والبدع التي تهدد مباشرة الجماعات الكنسية".]. يتحمّل الإنسان "البالغ" مسؤوليّته في كلّ مجال، ولا يَهرُب منها إلى الأمام بالهلوَسة والنفَس السِحريّ الطفوليّ.
3. "إنّي شعرتُ بقوّة[ في اليونانيّة قوَة هي dynamis أي قُدرة] قد خرجَت منّي" (لوقا 8: 46)
قدرة الله على منح الحياة في أيِّ وقت بديهيّة للمؤمن(ة)، وهذا ما بيَّنه لوقا في الحالتَين[ لوقا 8: 41-56]: حالة المرأة النازفة وحالة يائيروس. "كلُّ شيءٍ ممكنٌ للمؤمن(ة)"[ مرقُس 9: 23]. لوقا 8: 40 يُفيد أنّ يسوع بعد مروره بالأُمَم، عاد إلى شعبه ليَبني معه علاقات قائمة على النعمة. النازفة والفتاة كانتا بحاجة إلى سنَد خارجيّ، وأسباط اليهود ال 12 كذلك، كما جاء أعلاه في الرقم 2. غير أنّ اليهود -في ذلك الزمن واليوم كذلك- لم يقبلوا يسوع[ "فدَهش ابواها، وأوصاهما أن لا يقولا لأحد ما جرى"- لوقا 8: 56]، فحرَموا أنفسهم من نعمة الله.
الـ"قوّة" التي خرجَت من يسوع لصالح النازفة يُمكن أن "تخرج" لصالحنا نحن أيضًا. وما "خرج" منه على الصليب "[ وجرى من جوفه دَمٌ وماء"- يوحنّا 19: 34] قد أخذَت البشريّة "مِلأَهُ، ونعمةً فوق نعمة"[ يوحنّا 1: 16.
].