في عام 1989، وبعد سنوات من الحرب التي التهمت الأخضر واليابس وعمّقت الجراح بين أبناء الوطن الواحد، وُقّع اتفاق الطائف كحلم طال انتظاره لإعادة إحياء لبنان من ركام الدمار، وتأسيس دولة تسودها العدالة والسلام
فرانسيسكا موسى
في عام 1989، وبعد سنوات من الحرب التي التهمت الأخضر واليابس وعمّقت الجراح بين أبناء الوطن الواحد، وُقّع اتفاق الطائف كحلم طال انتظاره لإعادة إحياء لبنان من ركام الدمار، وتأسيس دولة تسودها العدالة والسلام. كان هذا الاتفاق بمثابة نقطة تحول تاريخية، وسط آمال عريضة بأن ينهي الصراع الدموي ويعيد بناء الثقة بين اللبنانيين. توافدت الأطراف السياسية برعاية عربية ودولية حول طاولة واحدة، عازمة على طي صفحة الماضي وفتح أخرى جديدة تنتشل البلاد من حافة الانهيار. لكن، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، تبددت الكثير من هذه الآمال، حيث أصبح اتفاق الطائف عبئًا ثقيلًا، إذ أسس لنظام محاصصة طائفية عمّقت الانقسامات بدلاً من رأبها، وأسفرت عن شلل ومأساة وفقدان الثقة بين الشعب والنخبة الحاكمة، وأعاقت تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. اليوم، ومع تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية، حان الوقت لإعادة النظر في إرث الطائف وفهم جذور التحديات التي تحول دون بناء لبنان يكون فيه الوطن لجميع أبنائه، خاليًا من أوجاع الماضي وصراعاته.
رغم النوايا الحسنة التي رافقت توقيع اتفاق الطائف، إلا أن هذا الاتفاق أسهم بشكل كبير في تعزيز الانقسامات الطائفية بدلاً من توحيد الصفوف بين اللبنانيين. فقد أصبح الشعور بالهوية الوطنية مرتبطًا بشكل وثيق بالطائفة أو الحزب، ما أدى إلى تفكك الروابط الاجتماعية وترسيخ ثقافة الانتماء الطائفي على حساب المصلحة الوطنية العامة. ومع مرور الوقت، تحولت هذه المحاصصات إلى نظام سياسي معقد يعتمد على تقاسم السلطة بين الطوائف، ما خلق مناخًا من عدم الثقة وسمح للنخبة الحاكمة بالتحكم في المؤسسات الحكومية. أحد أبرز المشكلات التي نتجت عن هذا النظام هو انهيار الاقتصاد اللبناني، الذي شهد تدهوراً مستمراً منذ توقيع الاتفاق. فقد ارتفعت معدلات البطالة بشكل مقلق، وازدادت الأعباء الاقتصادية على المواطنين، ما دفع الكثيرين إلى البحث عن فرص أفضل في الخارج، وأسهم في زيادة ظاهرة الهجرة الجماعية. كذلك، تفاقمت الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الطوائف، حيث زادت حدة الفقر بين فئات معينة من المجتمع، بينما استمرت الطبقات النخبوية في الاستفادة من المحسوبية والفساد المتفشي في مختلف مؤسسات الدولة. ومع استمرار الأزمة الاقتصادية، زاد التوتر بين المجموعات الطائفية،مما أسهم في تفجير الأوضاع الأمنية في البلاد. إذ يشهد لبنان اليوم تصاعدًا في الصراعات المحلية، نتيجة الصراعات السياسية التي تستند إلى الانتماءات الطائفية، ما يؤدي إلى اندلاع احتجاجات وعنف بين مختلف الجماعات. كما أدت الأزمات المستمرة إلى تفاقم مشاعر الإحباط والاستياء بين الشباب جعلتهم عرضة للتطرف أو الانخراط في أعمال عنف. في ظل فقدان الثقة بين الشعب والنخبة الحاكمة، شهد لبنان تآكلًا متزايدًا في الثقة بمؤسسات الدولة، نتيجة غياب الشفافية والمحاسبة. هذا التآكل لم يقتصر فقط على الشق الاقتصادي، بل امتد إلى المجال السياسي والاجتماعي، وأدى إلى انعدام الاستقرار وتعميق الانقسامات بين الحكومة والمواطنين. الوضع الحالي في لبنان يتطلب تأملًا عميقًا وإعادة تقييم للأولويات الوطنية. فاستمرار الاعتماد على نظام المحاصصة لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام والفوضى.
اليوم، يعيش اللبنانيون في ظل أزمات سياسية واقتصادية خانقة، تتجلى في تآكل الثقة بين الشعب والنخبة الحاكمة، وفي تفشي الفساد وعدم الشفافية. هذه الظروف لا تؤدي فقط إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، بل تُعزز أيضًا التوترات بين المجموعات الطائفية، وتزيد من احتمال تفجر الأزمات الأمنية. الآن، يتطلب الأمر الشجاعة ورؤية جديدة لتجاوز الإرث الثقيل لاتفاق الطائف. يجب أن يُعطى الأولوية للحوار الوطني الذي يركز على أسس المواطنة والمساواة، بعيدًا عن الهيمنة الطائفية، من أجل إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطنين. إن المستقبل الواعد للبنان يتطلب شراكة حقيقية بين جميع الأطياف، واحتضانًا للتنوع، لضمان دولة قوية ومستقرة تعكس تطلعات كل أبنائها. في النهاية، إن الإيمان بإمكانية التغيير هو الخطوة الأولى نحو إحياء لبنان وجعله وطنًا يسوده السلام والعدالة، حيث تُكتب صفحة جديدة من التاريخ تُعيد له رونقه وتفتح أمام الأجيال القادمة آفاقًا جديدة.