جوزاف إبراهيم
رجِعت السيدة التسعينية إلى بيتها فلم تجده، اشتاقت للأيام السعيدة و"عجقة السير"، فصرخت: "ارجعي بيروت تترجع الأيام". وعندما سألت: "وينك يا حبيبي؟" في "هوا بيروت"، ردّ الصدى: "بتضلك حبيبي يا تراب الجنوب"، من بحر صور وصخرة جبل عامل، ومن قلبها المشبّك بحجارة بعلبك، حيث ذابت حبّاً على أدراج مدينة الشمس.
هكذا هي فيروز، حاضرة في كل أيامنا وجغرافيتنا. لا تحتاج إلى إصدار جديد، فما حملته من كلمات في صوتها لا يمكن حبسه في أي بُعد زمني أو مكان.
صوتٌ في مواجهة الأزمات
اليوم، نحتفل بصوتٍ في عقدِهِ العاشر، في وطن ما زال عُقدة تحاول الأيام حلّها كما وصفهُ جبران.
فيروز المرأة التي تصدح بصوتها وسط العدوان قائلةً: "هون رح نبقى"، تبقى رمزًا للصمود. من صور إلى بيروت وبعلبك، كلّما قُصِفت مدينة، ارتفع نشيد غنّته فيروز ليذكّر بآلاف السنين من الحضارة، وليعلن القيامة بعد الموت، وكأنما هذه الأعمال أصبحت أناشيد وطنية محلية، وكأنما صوتها هو البِناء وسط الخراب.
اليوم، يعلو صوت المعارك، والصوت أيضاً سلاح؛ فيروز نفسها وصفت الغناء بأنه صلاة، قائلة خلال تصريح صحافي في نيسان 1987: "عندما أغني ضد الاضطهاد، ليس في الأمر مجرد إيصال كلمات وغناء بواسطة صوت جميل. هذه هي أسلحتي التي أستخدمها. الأمر أشبه بالصلاة. عندما تصلي، أنت تنقب في أعماق الروح. إن ما يصل مني إلى الجمهور هو ما لا أستطيع السيطرة عليه من روحي".
مسرحيات الرحابنة: مرآة الواقع اللبناني
من هنا، فيروز هي غربة، زاد الخير، بياعة البندورة، عطر الليل، هيفا، زنوبيا، شاكيلا، قرنفل...
مسرحيات فيروز والرحابنة، التي امتدت عبر عقود، تجاوزت كونها عروضاً فنية لتصبح مرآة تعكس واقعاً سياسياً واجتماعياً متشابكاً، لا بل تحمل بعداً تنبؤياً مذهلاً. في هذه الأعمال، نجد أبطالاً يجسدون قضايا الوطن، المقاومة، الظلم، والحب.
جبال الصوان: وعد ونذر
في "جبال الصوان"، تصدح غربة بصوتها بوجه الطغيان، حاملة رسالة حاسمة ضد القهر والاحتلال. هي الوعد والنذر، ابنة السلالة المُكرسة للدفاع عن الأرض، بوجه الظلاّم، وآخرهُم "فاتك"، تعود من الغيبة لتستنهض شعبها، فتُسقِط الخوف وتُقدس الموت في سبيل الأرض "لمّا يوقع القتال بين تنين، واحد بدو يخاف واللي بيخاف بينغلِب" هكذا تختصِرُ المواجهة. المسرحية مليئة بالرموز من تحدي الإبادة: "ورا كل بيت وصخرة عم يخلق ولد لمدلج"، إلى الحرب النفسية: "هَددتكن الإشاعات؟!"؛ ومن الإعمار بعد الهدم: "هدمت الحروب المدن، عمروها اللي بقيوا"، إلى متابعة المسيرة: "منكمّل باللي بقيو".
ناطورة المفاتيح: حراسة الهوية
"ناطورة المفاتيح" تستحضر قيم الحراسة والمسؤولية عن الوطن. البطلة الحارسة للقرية رمز للأمانة، في إسقاط واضح على صرخة اللبنانيين اليوم للحفاظ على وطنهم وهويتهم في مواجهة التفكك. وللمفاتيح رمز يتعلق بالعودة إلى قرى التهجير.
بترا: قوة المرأة
في "بترا"، تتحمل البطلة شاكيلا مسؤولية كبيرة في غياب زوجها، مما يعكس واقع المرأة اللبنانية والمشرقية التي تتحمل أعباء المجتمع رغم غياب الدعم. الأم المفجوعة في نهاية المسرحية تصبح رمزاً للثكالى في الحروب والصراعات. تقول شاكيلا لوزيرها ريبال (نصري شمس الدين) أثناء إطلاعهِ لها على قدرات الأعداء: ريبال كون المجد بتكون العدد.
زنوبيا: صوتٌ لا يُقهر
في أوبريت "زنوبيا" الذي عُرض في معرض دمشق الدولي بعد مسرحية ناس من ورق، تنهي فيروز المُغنّاة بصرخة أبدية بوجه الظلم: عليِت الصّرخة كبرِت على المَوت....لا عسكرَك أورليانوس ولا قوّة روما ولا كلّ روما بالدّهر بتسكِّت هالصَّوت. هُنا يمثل أورليانوس (وليام حسواني) وروما إمبراطوريته واحدة من أعتى القوى العالمية، فيما زنوبيا ملكة تدمر هي المرأة التي وقفت بوجهِ الدُنيا.
لا تكفي المساحة هُنا للخوض في تفاصيل المسرحية الرحبانية، لكن الأحداث الأخيرة تجعلنا نعيد قراءة هذه المسرحيات كأعمال حيّة نابضة بالمعاني، قد تُغني عن مئات النشرات والتحاليل السياسية.
فيروز بصوتها، الذي "يجمع ويعلو فوق الصراعات"، وفق ما وصفه نصري (هكذا تحبّ مناداته)، تصبح صوتاً للأرض والحب والوطن، تماماً كما يحتاج لبنان اليوم إلى صوت جامع يُعيد بناء الأمل ويصنع مستقبلاً أفضل.
فيروز ذاكرة جماعية ومرآة لآمال اللبنانيين وتطلعاتهم، وكما كانت على المسرح واسطة العقد وصوت الحلّ تظل اليوم رمزاً لوطن يعيد تعريف نفسه وسط الأزمات.
فيروز ليست مجرد صوت؛ هي ذاكرة جماعية ومرآة لآمال اللبنانيين وتطلعاتهم.
إلى فيروز
سيدتي، اسمحي لي الآن أن أتوجه إليكِ. ومن أنا؟! لكنني التقيت بـ"وعد الصوت".
أنتِ تسكنين بيتي، عائلتي، قريتي، ووطني، أيامي ومشاويري..
فيروز، خذيني إلى فنجان قهوة ذات يومٍ، حيث اللقاء بلا مسافة، وحيث يُصبح الحلم حقيقياً ولو للحظة. ألا يحق لنا أن نحلم؟
أنتِ مُحرّضتنا على الحلم، يا وردة "المحطة.
وأنا الشاب الثلاثيني، ابن جيل جاءَ بعد أجيال من عشق صوتكِ، أستأذن روح أنسي الحاج، لأردّد ما قاله منذ أربعة وخمسين عاماً: "أحبّها بإرهاب"