النهار

مصارحة تحت النار: مصير الوطن وشعبه ليس وجهة نظر
المصدر: النهار
مصارحة تحت النار: مصير الوطن وشعبه ليس وجهة نظر
تصلح التجارب القاسية التي عانى منها اللبنانيون طويلاً، ولا يزالون يرزحون تحت أعبائها الضاغطة، لأن تكون تعبيراً واضحاً عما يسع الدعاية المتقنة أن تفعله
A+   A-

علي العزير

 

إنه لحدث موغل في الإيلام أن يُدمر وطنٌ حاز الكثير من الألقاب الموحية يوماً، سعياً لتكريس هيمنة نسق عقائدي مهما أحيط به من حقائق وأوهام. كذلك، من غير المقبول، في أكثر الشرائع ظلماً، أن يعاني شعب كامل من الموت والتشريد حفاظاً على مجد مزعوم هو، وفي جوهره، أقرب إلى المقولة الشائعة منه إلى الحقيقة الدامغة. استطراداً: لا يجوز لكل هذا القتل والتدمير والمعاناة التي يعاقرها شعب بكامله أن تكون مجرد خسائر جانبية لا تستحق التوقف عندها، ولا حتى الالتفات إليها.
تصلح التجارب القاسية التي عانى منها اللبنانيون طويلاً، ولا يزالون يرزحون تحت أعبائها الضاغطة، لأن تكون تعبيراً واضحاً عما يسع الدعاية المتقنة أن تفعله، وأن تشكل معادلاً سلوكياً لتأثير الكلمة المتقنة الصياغة على مصير المجاميع البشرية الغارقة في صناعة أصنامها.
ويبقى السؤال الأكثر أهمية: ماذا بعد؟ ماذا بعد الانتهاء من إحصاء القتلى والجرحى والغارات والبيوت المدمرة وأعداد النازحين؟ ماذا بعد بشاعة الأنقاض الرازحة بصلف فوق أشلاء الأحبة؟ ماذا بعد إطلاق تسمية الشهداء زوراً على الضحايا الذين لم يكن لهم ما يستشهدون به أو يشهدون عليه؟ ماذا بعد الانتظار المضني لنتائج لقاءات آموس هوكستين، القادم من خدمته العسكرية في جيش الأعداء، متأملين في أن ينقذنا من مراسم الدفن الجماعي؟ وماذا بعد اعتيادنا على أصوات الغارات الجوية الصاخبة تخترق البث التلفزيوني بينما نبحث عبره عن خبر مطمئن؟! وماذا بعد احترافنا قراءة خرائط الاستهداف وأوامر الإخلاء، ثم مقارنتها بأمكنة انبعاث دخان الحرائق؟ هل يمكن لكل ذلك، على كل ما فيه من فظائعية، أن يؤول إلى التغاضي والنسيان؟ الجواب هنا أشد من الأسئلة استعصاءً.
أسئلة كثيرة يطرحها هذا الكثير من الصخب… لعل أصعبها سؤال كيف سيكون بوسع الحياة أن تستمر بالرغم من كلّ ما اعتراها من زيف ونقصان… كيف سيعتاد الناس أن يعيشوا بجزء من أحبتهم، وأن يتآلفوا مع غياب آخرين؟ وكيف سيكون عليهم تقبل الأمر كما لو أنه ضريبة عادلة، استوجبتها صفقات من خارج حدود المكان والزمان، يجدر بهم دفعها عن طيب خاطر مهما بلغت حدة انكساره؟
الموت قاس بطبيعته… ويصير أشد قسوة عندما تتقاطع جماعيته مع مجانيته.. عندما يتحول الخاضعون له إلى مجرد خانات في جدول الإحصاء؛ عندما تندثر في أرجائه الحالكة كل الأحلام والآمال والأماني الطفولية؛ وعندما يتكرس درباً أحادي الاتجاه فيما تغدو الحياة مجرّد منافذ استثنائية يحظى بها المحظوظون وحدهم.
في حفلة الموت الجنونية التي يشهدها لبنان قيل الكثير مما لا يمكن القبول به؛ أشيع أنه من غير الملائم إجراء الحساب على وقع الحرب وفي أجوائها؛ وأن الظرف ليس مناسباً لأن يُنَاقَش فريقٌ سياسي في مواقفه وطروحاته بينما هو يخوض معارك غير متكافئة مع العدو؛ وأن الموقف من التأزّم بحيث لا يحتمل أن يُلام شريكٌ في الوطن على سلوكه حتى لو تسبّب بما لا تُحمد عقباه! لكن كل ذلك لا يمنع من القول إن الحقيقة في مكان مختلف تماماً، وإن مصلحة لبنان بكل مكوناته، في مقدمها الفئة المستقوية التي ترى أنها صاحبة الحق يدور معها حيثما دارت، تقتضي المصارحة، ولو تحت النار التي اكتوى بها الجميع، وإن مصير الوطن ببشره وحجره أكبر من أن يجري حسمه بإرادة فردية، أو بأحسن الأحوال فئوية، وإنه من غير الجائز أن يكرّس أحد الشركاء نفسه بوصفه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وأن يحيل أي نقاش معه، أو اعتراض على رؤيته، مهما أدركت نتائجها من السلبية المدمرة، إلى سلوك يحاذي الشرك بالله.
يحاول البعض تبرير ما حصل بأن اسرائيل دولة محتلة لبعض أراضي لبنان، مما يعني برأيه أن الدخول في مواجهة معها أمر مشروع، ويضيف أن "حزب الله" عندما قرر مساندة "طوفان الأقصى" استهدف الوجود الإسرائيلي في الجزء اللبناني المحتل، لكن الرد جاء في المناطق المحررة، مما يعني أن إسرائيل هي التي دفعت الأمور باتجاه الحرب على النحو الذي لم يكن الحزب يريده.. يسعى هذا القول لأن ينفي مسؤولية "حزب الله" عما آلت إليه الأمور راهناً. لكنه يستبطن بذلك أن ما حدث كان أمراً خاطئاً، وإلا لما كانت هناك حاجة إلى تبريره. محاولة التنصل مما حدث وتحميل إسرائيل المسؤولية تنطوي على قدر من التبسيط المخلّ. هي تماثل أن يكتشف المرء فجأة أن أعداءه هم حقاً أعداؤه؛ ذلك أنه من غير المنطقي أن تلوم عدوك على عدم التزامه بالسقف الذي وضعته لحرب قررت أن تخوضها معه.
في الآونة التاريخية الأخيرة شهدنا رواج عبارة لقيت الكثير من الترحيب، مفادها أن الخيانة ليست وجهة نظر، وهي صحيحة ومنطقية. لكنها تستدرج بالمقابل عبارة موازية لا تقل عنها صحة، مضمونها أنك لا يمكنك تصنيف أي وجهة نظر تتناقض مع رأيك بوصفها خيانة. 



 

اقرأ في النهار Premium