الاب ايلي قنبر
1. "يا إِخوَة، تَشَدَّدوا في ٱلرَّبِّ .. لِتَستَطيعوا مُقاوَمَةَ مَكايِدِ إِبليس". نعم، "فَإِنَّ مُصارَعَتَنا (هي) ضِدَّ ٱلرِّئاساتِ، ضِدَّ ٱلسُّلُطاتِ، ضِدَّ سائِدي ٱلعالَمِ".
يهذه الكلمات توجّه بولس إلى أهل أفَسُس تحشيدًا، ولمُقاوَمة الأشرار المُتَحكِّمين بمصائر الناس. قوّة المؤمن(ة) هي من الربّ الذي أبرأَه "على صورته، كمثاله"، أي حُرًّا ومُفكِّرًأ مسؤولًا ومِقدامًأ، يُميِّز الخير ويسعى في إثْرِه، ويُناضِل حتّى يعمّ "الصلاح" الأرجاء كافّة. بالطبع، الأمر صعبٌ جدًّا، غير أنّ الذي يُحبّ "الإلَهَ الحقيقيّ وَحده" يُجاهِد ويُصارع كما فعل ذلك الإله المُتأنِّس إذ "أخلى ذاته، وصار طائعًا حتّى الموت، الموت على الصليب" كي تكون لِلإنسان-الآخَر "الحياة الوافرة"، ويبقى حُراً (لوقا4: 16-22) عزيزاً مُستقِلاً. لقد صارَع يسوع وجهاً لوَجه ودون مُساوَمة "الرئاسات والسلُطات السائدة عالم" فلِسطين والأمبراطوريّة، أكانت السلُطات يَهوديّة أو رومانيّة. لقد كانت "عينُه(كَيانه) بسيطة، وجسَدُه (مَوقفه والتزامه) نَيِّراً"، فاستطاع "المُقَاوَمَةَ في ٱليَومِ ٱلشِّريرِ"، لأنّه كان يُؤمِن بذاته وبالآب السماويّ "ٱلَّذي بِهِ قدِر أَن يُطفِئ جَميعَ سِهامِ ٱلشِّريرِ ٱلمُلتَهِبَةِ" المُصوَّبة إليه وإلى المظلومين والمُستَضعَفين. قُدرتُه على المُواجَهة والمُقاوَمة والمُصارَعة أتَت من رؤيته الشخصيّة المُتناغمة مع رؤية الآب.
ونحن، بدَورنا، إذا ما حسَمنا أمرنا، ووضَعنا "ٱلحَقِّ" في قلبنا وأمام أعيُنِنا، ورَفَعنا رايَة "البِرّ"، واستَعددنا لحَمل "إنجيل (بُشرى) السلام"، وقبِلنا الإيمان الآتي من "كلمة" الله، نقدر أن نُواجه ونُقاوم ونُصارع " ضِدَّ سائِدي ٱلعالَمِ". ومِثل يسوع نُرَدِّد:"أبي يعمل حتّى الآن وأنا أعمل"(يوحنّا 5: 17)، ولكن ليس على طريقة مَن قال:"هَذا كُلُّهُ قَد حَفِظتُهُ مُنذُ صِباي". هناك ما يُسمّيه المطران غريغوار حدّاد "سياسة القضايا" وقد أورَدها يسوع في حواره مع الرجُل الذي اتاه مُريدًا معرفة الوصول إلى الهدَف الأسمى في الحياة. كان الشابّ يعمل بشريعة دينه، غير انّه لم يجد فيها ما يَسمُو به، فطرح على الرّابي يسوع سؤاله التوجيهيّ. فقال يسوع:"واحِدَةٌ تُعوِزُكَ بَعد: بِع كُلَّ شَيءٍ لَكَ، وَوَزِّعهُ عَلى ٱلمَساكينِ .. ثُمَّ تَعالَ ٱتبَعني". تكريس النفس لقضيّة إنسانيّة عظيمة هو أسمى ما يُمكن أن يتبنّاه إنسان، لا التعلُّق الاستِعباديّ بالمال وبالسلطة!
2. قضيّتنا اليوم هي "مُقاوَمَةَ مَكايِدِ إِبليس" .. (أي مُقاوَمة) سائِدي ٱلعالَمِ، عالَمِ ظُلمَةِ هَذا ٱلدَّهرِ". وتتطلّب مُقاومتنا معرفة "العدُو" ومُخطّطاته وأُسلوب تحرّكه لنستطيع "مُصارعته" بمُقاومته وإسقاط مشاريعه الشرِّيرة. العدُو ينشط 24/24 للتحكُّم بعالم البشر، وهو لا يفتأ منذ1879 في ضرب "الحياة الوافرة للجميع" ليُحوِّلها إلى جحيم. ومن بين أدواته، "هناك معايِير سياسيّة مختلفة مُصمَّمة لزيادة تركيز الثروة والقوّة مثل السياسيّة المالية، وإلغاء قُيود التنظيم، ومبادئ سَيطرة الشركات، وهذا ما نراه جليًّا في فترة الليبرالية الجديدة. إنها دَورة شرِّيرة، تتقدّم بثَبات. فالدولة -بالنسبة إليهم- موجودة لتؤمِّن الأمان والدعم لمصالح قطاعات الأقوياء وأصحاب الامتِيازات في المجتمع، فيما تتُرك بقيّة الشعب لتَختبر الواقع المُؤلِم للرأسماليّة".
لقد لاحظ كُثُرٌ من الناس كيف تتدَحرج الأُمور منذ 2016 خُصوصاً. لكن لم يعرف هؤلاء كيف يتجمّعون ويتّحدون حول أهداف ومُخَطّطات تحفظ الجنس البشريّ من أخطار حفنة "سائدي العالم" أصحاب "العَين الشرِّيرة" المُظلمة (متّى 6: 23). هُم يشْكُون ويتَذمَّرون ويلعَنون دون جدوى. غافِلين أنّ الفِعل المدعوم بالفِكر المُلتزِم القضايا العادلة والإرادة الحُرّة والتشارُك بين الناس كفيل بإيصالهم إلى مُرادِهم.
وهذا ما لم يحصل حتّى الساعة. أمّا مُحاولات دُوَل "البْرِيكس" ودُوَل "منظّمة شانغَهاي للتعاون" و"الاتحاد الاقتصادي الأوراسي" التي تُحاول التخلُّص من هيمنة الاقتصاد النِيُوليبِراليّ المتوحِّش، فإنّها مَحاور اقتصاد سياسيّ لا سياسة دُوَليّة إنسانيّة جامعة. و"الشعوب المقهورة يتمُّ ضَبطها والسيطرة عليها لتظلّ سُوقاً استهلاكيّة بعيدة عن مراكز القرار السياسيّ بشكلٍ مُمنهَج، حتى في أعرَق الديمقراطيات"، يجزم نعُوم تْشُومْسكي. في مُقابل تلك المحاولات الاقتصاديّة برزَت في أوائل سبعينيّات القرن العشرين حركةٌ لافتة وذات تاثير في أميركا اللاتينيّة حملَت تسميَة "لاهوت التحرير"، التي تُنسَب بحقّ إلى الأب غوستاڤو غوتيِيريز الپيروڤيّ. "هي حركة كاثوليكيّة ويساريّة بآن، تتأسَّس على المسيحيّة وتُدافع عن المُساواة الاجتماعيّة وتُناضل لصالح الفقراء. ولا أجِد مُعادِلا ًلها اليوم"، يصرِّح الفيلسوف الأميركيّ مايكل والزِر. وقد اعتبرَت أنّ "المَقهور يجب أن يأخذ مصيره بيَدِه ولا ينتظر إحسان الأقوياء أو التحرُّر في المَابَعد. ملكوت الله يجب أن يتحقَّق في التاريخ البشريّ على الأرض، لا في السماء": "لتكُن مشيئتك، كما في السماء، كذلك على الأرض"، أليس هذا ما نُعلِنه في الصلاة الربِّيَّة"؟ لقد كتبَ الأب غوتيِيريز في 1971:"إنّ إنكار واقع صراع الطبقات يعني التَحيُّز لصالح القطاعات المُهَيمنة". هل هذا ما أوصل يسوع إلى الصليب؟
"واحِدَةٌ تُعوِزُكَ بَعد ... ثُمَّ تَعالَ ٱتبَعني": تحرَّر من المُلكيّة الآسِرَة، تقاسَم ما لدَيك مع الآخَرين لا سيَّما المُستَضعَفين، فتربح أخواتك وإخوتك الناس، وتكون ابنَ الانسانيّة أو "على صورة الله، كمِثاله".