كاتيا سعد
"كتر خير الله إنّك مش هون"... سمعتها من أمي لأول مرة منذ غربتي، وبالتأكيد أنني لست الوحيدة التي سمعتها منذ بداية حرب إسرائيل ضدّ حزب الله، التي أدت إلى تفاقم المجزرة الإنسانية بحقّ كل شخص بريء، ذنبه الوحيد أنه وُجد في هذا المكان المستهدف أو ذاك.
أما أبي، فعند كل اتصال يردد "ما تعتلي همّ... نحنا منيح"، ويحدثني بنفس النبرة المطمئنة التي اعتدتها. لكنني، كما هو حال كل مغترب، أعرف أنه ليس بخير، وأنهم بالكاد ينامون وأنهم كما الباقون يعانون المصير المجهول، والاتّكال على الله وحده.
قلنا ليس هناك أسوأ... لكن!
ألم يحِن الوقت أن يعيش أهلنا الأمن والأمان؟ هم من في كل حرب يذكروننا بالحروب، التي مرت عليهم حتى اليوم... ألا يستحقون أن يتقاعدوا من التدمير النفسي الذي تفرضه كل سوء حال؟
شخصياً، أتمنى عصراً أجمل لأهلي، كما لجميع الأهالي... كانوا، وما زالوا، ينشغلون بأحوالنا خاصة في الغربة، واليوم انقلبت الأدوار لنكون نحن "ع أعصابنا" من أجلهم.
أصبحنا نخاف من notification واتس أب من "غروب العائلة" أو رنّة هاتف، خوفاً من أن يردنا أي خبر سيئ، وبنفس الوقت نخاف أن ينقطع الإنترنت أو الخطوط ولا نتمكن من الوصول إليهم.
تكثّفت مجموعة الرسائل والاتصالات بيننا وبينهم، وعدم الاكتفاء برسالة صباح الخير، واتصال مسائي، بل أصبحت أولويتنا الاطمئنان عليهم على مدار الساعة، خاصة ساعة الذروة: بدءاً برسالة التحذير لإخلاء المناطق التي ستُستهدف، مروراً ببدء الغارات وما بعدها.
لن أعود الى حرب 1975، لأنني لم أشهدها... لكن شهدت على اغتيال رفيق الحريري عام 2005، ثم سلسلة الاغتيالات لشخصيات سياسية وصحفية وغيرها. قلنا هذا أسوأ ما يمرّ به لبنان. ففاجأتنا حرب تموز 2006... قلنا لن يكون هناك أسوأ، فصدمتنا فاجعة انفجار مرفأ بيروت عام 2020. قلنا لن يكون هناك أسوأ، فاعترضتنا الأزمة الاقتصادية وسرقة أموال المواطن... قلنا لن يكون هناك أسوأ، حتى عدنا إلى نقطة الصفر، وأطاحت بنا هذه الحرب الأخيرة في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
لبناني ولبناننا
هل هذا هو "لبناني" و"لبنان" الشعب اللبناني، الذي نريده؟ هل هذا هو الوطن الذي نفتخر به كلما تغنى به الغريب بوجهنا عندما نقول له إننا "لبناني(ة)؟ هل هذا هو المصير الذي نرغب بمشاهدته من الخارج؟ هل هذه هي الأرض التي سنبني عليها حجر الأساس لنحقق عليها طموحاتنا؟ مع الأسف ليس هذا لبناننا... بل هذا هو لبنانهم؛ هؤلاء - لبنانيون وغرباء - الذين يفتقرون الضمير والإنسانية على حدّ سواء. باختصار إنهم نظام Toxic Management على صعيد وطن، أخطر منه على صعيد شركة. لكن الضحية واحدة: المواطن.
لبناني هو ذاك الذي قلت "آن الأوان لأعود وأستقرّ فيه... شبعت غربة، تعلّمت ما يجب وتحمّلت ما يجب وعشت ما يجب"... لكن اصطدمت بعبارة "أوعى ترجعي".
لبناننا هو ذاك الوطن الذي نعيش فيه الجنة، عند كل إجازة لدرجة نقول "ما في أزمة"، لأننا بفترة وجيزة نعيش حياة السائح فلا نشعر بأي شيء.
لبناني هو كل شخصية لبنانية اغترابية بارزة أكتب عنها؛ وكل حدث لبناني في بلاد الاغتراب، أحاول عدم تفويت تغطيته.
لبناننا هو كل تلك الانجازات التي نفرح بها ونشاركها على وسائل التواصل الاجتماعي، لا تلك الدعوات لوقف إطلاق النار وإحصاء عدد القتلى وغيرها من المجازر الإنسانية.
بيننا وبينهم يقف حاجز الإدارة السامة، سواء على صعيد وطن أو على صعيد علاقات خارجية. عينهم على لبنان، الوطن الذي يندرج في قاموسهم تحت مسمى "بلد صغير"، لكن هذه الـ 10452 كلم² هي "عقدتهم". وهذه المساحة تساوي ملايين الكيلومترات، من الحضارة والانفتاح والنجاح والتميّز. إنه لبناننا، وليس لبنانهم ولو لثانية.