النهار

الشرطة القضائيّة تكشف مخطّط الزوجة لقتل زوجها بالسمّ
الشرطة القضائيّة تكشف مخطّط الزوجة لقتل زوجها بالسمّ
عنصران من المجموعة الخاصة في وحدة الشرطة القضائية
A+   A-
العميد م. أنور  يحيى*
مطلع حزيران 1982 اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان، وساد انتشار المليشيات المتعاونة في بعض المناطق اللبنانية في حينه. مات "السيد فؤاد" ( 65 سنة) بتاريخ 20 حزيران (يونيو) في إحدى قرى المتن الشمالي، ودُفِنت جثته في الحال من قبل زوجته وابنه بحجّة أجواء الحرب وانتشار المسلحين وجيش العدو الذي غزا لبنان حتى عاصمته.
أحد جيران المتوفّي، سمير، والذي يرتبط بصداقة مع قاضي تحقيق جبل لبنان سعيد ميرزا، أفاده بأنّ "السيد فؤاد" ربما مات مسموماً بتخطيط من زوجته فكتوريا (45 سنة) التي كانت على سوء تفاهم دائم معه، وغالباً ما كان الجيران يتدخّلون بناء على صراخهما وقد سمعتها زوجة سمير تقول: "ما في خلاص إلّا سمّملو وأخلص منّو؟"
على الفور أصدر قاضي التحقيق استنابة قضائية إلى الرائد اسكندر شلفون، آمر مفرزة بعبدا القضائية، بالكشف على مسرح الحادث، وإمكان استخراج الجثة وتكليف طبيب شرعي بالمعاينة والقيام بتحليل ما تبقّى في الجهاز الهضمي للمتوفّي.
كلّف الرائد، المعاون عبد الرحمن فاضل، رئيس دورية الأدلة الجنائية في المفرزة، تنفيذ استنابة المحقّق وكشف خفايا الحادث.
انتقل المعاون إلى محيط منزل فؤاد، واستمع إلى أقوال جارته، وأكّدت أنّ فكتوريا تعيش وزوجها فؤاد في شقة واحدة، لكنّها مقسومة بقاطع خشبي، بحيث تقيم الزوجة في قسم منها، فيما الزوج يستثمر القسم الآخر، وغالباً ما يرتفع الصراخ والشتائم بينهما وتتدخّل مع زوجها للتهدئة. يشرب الزوج المياه من أبريق فخار تبرُد مياهه صيفاً نظراً لانقطاع الكهرباء... علماً أنها شاهدت فكتوريا، زوجة المتوفي، تحطّم الأبريق في حجرة قطعاً صغيرة، صباح اليوم التالي للوفاة، خلف المنزل بشكل مُلفت، عاين المعاون فاضل بقايا الإبريق وكانت رائحة السموم ما تزال موجودة وتمكّن من جمع القسم الأكبر من القطع وأرسلها إلى قسم المباحث العلمية في الشرطة القضائية للاستثمار.
بسؤال زوجة المتوفّي عن سبب تكسير الإبريق قطعاً صغيرة بعد الوفاة وعن رائحة السموم التي ما تزال تنبعث منه قالت: "يمكن المرحوم انتحر ليرتاح من مشاكل نفسية يعاني منها" وأنّها كسرت الأبريق حزناً عليه!
تمّ استخراج الجثة من المدفن وعاينها طبيب شرعي متخصّص وأخذ بقايا سموم ما تزال عالقة في أمعائه وأودعت القسم لمقارنتها مع بقايا الأبريق فجاءت النتائج مطابقة!
بنتيجة دراسة التحريات  لدى عناصر التحرّي، شارك فيها الرائد شلفون والمعاون عبد الرحمن فاضل بإشراف القاضي سعيد ميرزا، تحقّقوا بأنّ الزوجة وضعت السمّ في الإبريق خفية عن المتوفّي، ولو كان ينوي الانتحار لشرب السمّ مباشرة دون مزجه بالمياه!
استدعيت الزوجة إلى المفرزة، وتابع الرائد والمعاون والدورية التحقيق الحازم معها وبمواجهتها بقولها: "ما في خلاص إلّا سمّملو وإخلص منّو"، وبأنّ تكسيرها الإبريق قطعاً صغيرة يشير إلى نيّتها بالتخلّص منه وإخفاء الأدلة التي قد يضبطها التحرّي. انهارت واعترفت بنيّتها التخلّص منه وهو الذي يكبرها بعشرين سنة، وهي ترتبط بعلاقة مع شاب تنوي الزواج منه، فاشترت السمّ من أحد المحلات بحجة قتل جرذان، وأحضرت للزوج اللحم المشوي مع التبولة وكأس العرق ودخلت غرفته معتذرة عمّا بدر منها، وأنّها تنوي إصلاح الحال والغداء سوية، فارتاح الزوج لمبادرتها، وبدأ الغداء وشرب العرق، وكانت دسّت السمّ، على غفلة عنه، داخل إبريق المياه. شرب الماء البارد مباشرة أو ممزوجاً بالعرق. وكانت تبادله الكلام والإثارة، ووعدته بالباقي الذي فقده، منذ سنوات، عند الانتهاء من الغداء.
تلاشت قواه وغاب عن الوعي وأخذ يستغيث فتركته ليموت على الكنبة وحيداً وأخذت الأبريق ونظّفت الكؤوس من العرق وبقايا السم، واتّصلت بابنها الذي حضر لاحقاً وكان والده قد لفظ أنفاسه الأخيرة. أعلم عائلته وقرّروا الدفن سريعاً في ظلّ العمليات الحربية. فدُفن الزوج في مقبرة العائلة بغياب الكاهن الذي كان بعيداً. واعترفت بتكسير الإبريق قطعاً صغيرة خوفاً من ضبط بقايا السموم.
أصدر القاضي ميرزا مذكّرة توقيف وجاهية بحقّ الزوجة ولم يرضخ لتهديد ابنها المقاتل مع إحدى المليشيات النافذة في حينه، بقتله،  لأنّه ورجال التحري يتحاملون ويفترون ظلماً على أمه، وأنّ والده قضى بالذبحة القلبية السريعة وليس بالسمّ في الإبريق؟
حضر قاضي التحقيق وقائد الشرطة القضائية العميد محمود طي أبو ضرغم إلى مفرزة بعبدا القضائية في حضور الرائد شلفون ودورية الأدلة الجنائية في المفرزة، والصحافة والإعلام.  هنأ عناصر التحري لكشفهم خفايا مقتل فؤاد، والدور الأساسي الذي قام به المعاون فاضل من تجميع قطع إبريق الفخار واستخراج بقايا السمّ منه ومقارنته بالسمّ الذي استخرجه الطبيب الشرعي من أمعاء المتوفي، ما أدّى إلى استنتاج أنّ الزوجة هي المُخططة والمُنفذة لقتل زوجها المغدور للتفرغ إلى صديقها، وأنها أسرعت بدفنه إخفاء للحقيقة.
إنّ تعاون الضابطة العدلية المتخصصة بالتحقيقات الجزائية الدقيقة، والتي تعمل بإشراف القضاء المختص، مع قسم المباحث العلمية في الشرطة القضائية، التي تضم أبرع المحققين وأرشيفاً غنياً بأصحاب السوابق والمطلوبين (بصمات اليد Finger print  والبصمة الوارثية DNA، وبصمة الصوت Voice Print)، هو الطريق الأقصر لكشف أكثر الجرائم الجنائية غموضاً... لكن هل تتمكن أجهزة الدولة الشرعية والقضاء الجزائي من تنفيذ مهامهم القانونية في حقّ المطلوبين، لا سيّما في قضية تفجير مرفأ بيروت بتاريخ 4/8/2020 والذي فاقت ضحاياه المئات؟
*قائد سابق للشرطة القضائيّة

اقرأ في النهار Premium