النهار

لبنان راجع راجع يتدمّر... الثقافة أو تقويم "اعوجاج" في ذهنية سياسية لبنانية
لبنان راجع راجع يتدمّر... الثقافة أو تقويم "اعوجاج"  في ذهنية سياسية لبنانية
"تفتقر البنيات الذهنية لبنانياً إلى المناعة بالمعنى الطبي"
A+   A-
أنطوان مسرّه*
ينحصر خطاب، وكتابات في لبنان، في الثقافة وتميّز لبنان الثقافي، داخلياً وعربياً وعالمياً، في مجالات الفكر والآداب والفنون والتراث والإبداع. إنّه مفهوم حصري للثقافة culture التي تعني أيضاً، من منظور علم الاجتماع، القيم والتقاليد ومخزون الذاكرة والبنيات الذهنية والسلوكيات.
لن نذكر كتابات ريادية حول القيم اللبنانية والتراث المتراكم في التواصل والتفاعل وكلّ ما يؤكّده باحثون، ومنهم مستشرقون زاروا لبنان عبر التاريخ. والتسوية compromis بشكل خاص في حياتنا السياسية هي، كما يقول Georg Simmel، "أهم اختراع للفكر البشري". لكنّ التسوية تتميّز بإطلاقيّة عن المساومة compromission. تتمّ التسوية في سياق توازن قوى وتنازلات متبادلة وعدالة متوازنة. أمّا المساومة فتتمّ في حالة اختلال في موازين القوى ولأهداف شخصية في تبادل منافع وعلى حساب المصلحة العامة.
في علم النفس السياسي العيادي psychanalyse politique نعاني أمراضاً لبنانية مستمرّة ومتراكمة، ليس لأسباب جينية، بل لأسباب تعود إلى علم النفس التاريخي لبنانياً psychologie historique. في حال عدم الولوج بجديّة قصوى مستقبلاً في معالجة "شطارة" لبنانية من الماضي وتكاذب وتذاكي وتموضع ومسايرة "ومعليشية"... في ذهنية سياسية لم تعد مجدية تجاه التحوّلات في عالم اليوم، يمكن الجزم: لبنان راجع راجع يتدمّر!
1. ثقافتنا السياسية: مع انتشار مفهوم طوباوي للثقافة هل نُدرك ما معنى ثقف ومثاقفة وتثاقف... في اللغة العربية بالذات؟ يفيد هذا التعمّق البحوث حول الثقافة في عالم اليوم. تعني الثقافة في المعنى الأصلي عربياً: "تقويم الاعوجاج"! يرد في لسان العرب لابن منظور: "ثقف الرمح: قوّم اعوجاجه". ويرد: "الثقاف: حديدة تكون مع القواس والرماح يقوّم بها الشيء المعوج". ويرد: "الثقاف: ما تسوي به الرماح، وتثقيفها: تسويتها والثقاف: خشبة تسوى بها الرماح، والثقاف: ما تقوّم به الرماح".
ويرد في المُنجد: "ثقف الرمح: قوّمه وسوّاه". ويرد: "هذّبه وكلمّه فتهذّب وتعلّم فهو مُثقف وهي مُثقفة وهذا مستعار من ثقف الرمح. والثقاف: آلة تثقف بها الرماح". ويرد في المورد الثلاثي: قاموس ثلاثي اللغات عربي-إنكليزي-فرنسي، لروحي بعلبكي، دار العلم للملايين: "ثقف: قوّم، جلّس To straighten, adjust, make straight".
انصبت وما تزال تنصب كتابات مثقفين بدون خبرة، وقانونيين، ولا نقول حقوقيين، وأيديولوجيين في البناء القومي، حول ميثاق لبنان والدستور وميثاق الطائف و"الطائفية"... لكنّ أفضل الدساتير وأرقى التشريعات لا فعاليّة لها ولا استدامة بدون ثقافة دستورية وسياسية موازية.
ما هذا الشعب الذي يجتاحه كلّ 15 سنة تقريباً مغامرون ومخادعون يقامرون بوحدانية الدولة والسيادة وثوابت سياسة خارجية لبنانية رسمية في إطار جامعة الدول العربية؟ وينساق معهم لبنانيون أتباع، ومثقّفون بدون خبرة وقانونيون، ولا نقول حقوقيون، وأيديولوجيون في البناء القوميّ. وما هذا الشعب الذي يهرب من النقد الذاتيّ فيتّهم دائماً الآخرين وطبقة سياسية وينساق عملياً وسلوكياً مع هذه الطبقة ويتمادى في سجالات حول صورة الآخر والحوار... إنّها اتهامات اجترارية ومعلّبة وجاهزة على الدستور وميثاق الطائف وصورة الآخر والحوار و"الطائفية"!
تفتقر البنيات الذهنية لبنانياً إلى المناعة بالمعنى الطبّي. هذه البنيات هي في حالة جهوزية لكلّ المغامرين والمقامرين بالمصير والثوابت الوطنية! الشعب اللبنانيّ لم يتعلّم. هل من الممكن أن يتعلّم ويتّعظ ويكتسب مناعة ثابتة كما شعوب أخرى عانت حروباً مستمرّة كسويسرا والنمسا وايرلندا الشمالية وأفريقيا الجنوبية...؟
2. الاغتراب الثقافي: ثلاثة أنماط من الكتّاب اللبنانيين والأجانب، غالباً عن حسن نيّة، أصبحوا يشكّلون بعد اليوم خطراً على الكيان اللبناني! إنّهم يزعزعون شرعية الكيان légitimité في الإدراك الجماعي اللبنانيّ. نعني بذلك:
1. الأيديولوجيون حول البناء القومي الذين لم يطّلعوا على مختلف أنماط البناء القومي التعاقدي.
2. الأيديولوجيون في شأن العصرنة الذين لم يطّلعوا على الدراسات العالمية المقارنة حول التعددية الدينية والثقافية وإداراتها في أكثر من أربعين دولة في عالم اليوم.
3. قانونيون –ولا نقول حقوقيين– ومثقّفون بدون خبرة يجترّون تعبير "الطائفية" "وطائفية سياسية" ويطرّزون كتابات بدون منهجية علمية وفعالية تطبيقية. يندرج الموضوع، علمياً ومنهجياً، في سياق نظرية التعددية الحقوقية والإدارة الذاتية الحصرية وقاعدة التمييز الإيجابي pluralisme juridique, autonomie personnelle, discrimination positive. إنّها قواعد دستورية خاضعة لمعايير ومطبّقة اليوم في أكثر من أربعين دولة بأشكال محدودة ومعيارية. أمّا الممارسة لبنانياً فهي الأسوأ عالمياً مع بركة عقائديين لسياسيين مخادعين وفاسدين: هذا هو النظام الطائفي! لا يوجد أساساً في النظرية الدستورية العالمية "نظام طائفي"! النظام الدستوري اللبناني هو نظام برلماني تعدّدي في النظرية الدستورية المقارنة. يتطلب كلّ ذلك مستقبلاً في سبيل النهوض تقويم "اعوجاج" في ذهنية سياسية لبنانية.
* كرسي اليونسكو– جامعة القديس يوسف

اقرأ في النهار Premium