القارة السمراء ضمن الرؤية الاستراتيجية لصراع النفوذ (أ ف ب)
د. جيرار ديب
فاجأت مصر "منطقة القرن الإفريقي" بانعقاد القمة الثلاثية مع إريتريا والصومال في مدينة أسمرة، الخميس 10 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، التي حضرها إلى جانب عبد الفتاح السيسي، الرئيس الإريتري أسياسى أفورقي، والرئيس الصومالي حسن شيخ محمود.
رغم الحديث عن فعالية اللقاء وأهميته على الصعيد الاقتصادي للدول الثلاث المجتمعة، لكنّ هناك من نظر إلى هذه القمة وحمّلها رسائل من الجانب المصري إلى أثيوبيا التي تجمعهما خلافات بدأت بقرار تشييد سد النهضة على النيل الأزرق، من قبل أديس أبابا، وقد لا تنتهي بصراع النفوذ على البحر الأحمر بين البلدين.
لقد أثار المشروع حفيظة مصر ودفعها إلى تسجيل اعتراض شديد اللهجة ضد الجانب الأثيوبي ما شرّع باب الصدام بين الدولتين. ففي شهر آب (أغسطس) الماضي، أعلنت أثيوبيا أنها قامت بتشغيل توربينين جديدين على سد النهضة الكبير، ما يتيح لها مضاعفة إنتاجها من الكهرباء بفضل هذا السدّ الضخم الذي بنته على نهر النيل، مسببة مشاكل مع دول حوض النيل على رأسها مصر. ووفق وزير الري والموارد المائية المصري هاني سويلم، فإن مصر تأتي على رأس قائمة الدول القاحلة والأقل من حيث معدل الأمطار، مع الاعتماد شبه المطلق على نهر النيل بنسبة 98%، لافتاً إلى أن سد النهضة الأثيوبي يعد أحد المخاطر الرئيسة على مصر وأمنها الغذائي.
الخلاف المصري الأثيوبي وطّد العلاقة المصرية الصومالية، حيث تعاني الأخيرة من جارتها أثيوبيا التي اعترفت باستقلالية إقليم "أرض الصومال" (صوماليلاند)، هذا ما أعطى حقّاً لأديس أبابا بالوصول إلى ميناء بربرة، على البحر الأحمر. تحت عنوان "المصيبة تجمع"، وجدت القاهرة أن عليها التقدم خطوة إلى الأمام في ملف منع أثيوبيا من الاستمرار في مشروعها بسد النهضة، لهذا سارعت إلى دعم مقديشو ليس حباً بها بل من أجل ممارسة المزيد من الضعط على جارتها أديس أبابا وفرضها معادلة "الوصول إلى البحر الأحمر مقابل التخلي عن مشروعها في سدّ النهضة".
أزمة "النيل" تضاف إلى أزمات مصر، التي ارتفع منسوبها خصوصاً مع رفض رئيسها عبد الفتاح السيسي عام 2020 تطبيق صفقة القرن التي طرحتها الإدارة الإميركية في عهد الرئيس الأسبق دونالد ترامب. هي نفسها مصر اليوم تعيد رفضها طلب الإدارة الأميركية مع حكومة بنيامين نتنياهو لإيجاد وطن بديل لفلسطينيي غزة، رغم التهجير القسري الذي مارسته إسرائيل بمباركة أميركية فاضحة. فهل أزمات مصر في منطقة القرن الإفريقي تعتبر جزءاً من حرب "المشاغلة" التي تنتجها الإدارة الأميركية عبر تفعيلها الأزمات دون التقدم بحلول جذرية؟
كشف المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية سامويل وربيرج عن موقف بلاده من أزمة سدّ النهضة الإثيوبي في أيلول (سبتمبر) الماضي، معتبراً أن بلاده لا يمكنها فرض القرارات على الدول، في ظلّ تركيزها على الدول الأفريقية، لأنها منطقة حساسة ولها أهمية استراتيجية.
صحيح ما كشفه وربيرج من أن القارة السمراء تقع ضمن الرؤية الاستراتيجية لصراع النفوذ بين أميركا وكل من روسيا والصين تحديداً. لكنّ ما لم يصدق فيه هو عدم مقدرة بلاده على فرض القرارات على الدول، بل الأصح قولاً إن بلاده لا تسعى إلى ذلك، طالما أنّ القضية تقع ضمن دائرة الأولويات المصرية، وهذا ما تحتاجه اليوم لإشغال مصر عن قضايا أخرى في المنطقة.
تنتقل مشاغلة مصر من إثيوبيا إلى السودان، حيث هاجم مستشار قائد قوات الدعم السريع في السودان الباشا طبيق مصر، وقال إنه "حان الوقت لإيقاف كل الصادرات السودانية إليها"، وأن "الخيارات مفتوحة، للتعامل مع الملف المصري". هذا، وكان قائد قوات الدعم السريع أحمد حميد دقلو قد توجه سابقاً لاتهام مصر بالتدخل في الشأن السوداني متهماً إياها بقيامها بتدمير البنى التحتية من مصانع وجسور ومؤسسات مدنية للسودان. فمنذ اندلاع الحرب السودانية، وقفت مصر إلى جانب عبد الفتاح البرهان ومدته بالأسلحة وبالمسيرات، بهدف إبعاد خطر قوات الدعم السريع عن حدودها.
تجد مصر في منطقة القرن الإفريقي حاجة إلى التدخل لحماية أمنها القومي والغذائي، ولكن هناك من يريد من مصر أن تغرق في حرب "مشاغلة"، علّ في ذلك يضعف من قدرتها على المقاومة والوقوف في وجه المشروع الأكبر الذي يحضّر للشرق الأوسط، والمتمثل بعملية "ترانسفير" لسكان غزة إلى منطقة صحراء سيناء، بهدف إقامة موطن جديد لهم. هذا ما كشفته الوثيقة المسربة من وزارة الاستخبارات الإسرائيلية عن مخطط تل أبيب لتهجير سكان قطاع غزة إلى مصر. وأشارت الوثيقة المسربة التي يعود تاريخها إلى تشرين الأول (أكتوبر) 2023 إلى نقل سكان قطاع غزة قسراً إلى سيناء، مشيرة إلى أن ذلك "سيحقق نتائج استراتيجية إيجابية طويلة الأمد".
المطلوب اليوم "مشاغلة" مصر التي تعتبر دولة إقليمية ذات وزن، كي لا تكون عقبة أمام المشروع الرئيس نحو بناء إسرائيل الكبرى، في ظل الفوضى التي سببتها الحرب التي تخوضها إسرائيل على محور الممانعة. لهذا فالأمور ذاهبة نحو التصعيد، مع التعنّت الإسرائيلي برفض عودة سكان القطاع إلى مناطقهم رغم إعلان جيش العدو، بأنّ غزة أصبحت "ساحة قتال ثانوية". ليس بالضرورة أن تنجح حرب المشاغلة في ثني القاهرة عن الاستمرار في الوقوف أمام المشروع الكبير، لاسيما وإن هناك إرادة صلبة عند الشعب الفلسطيني في التمسك بأرضهم والحفاظ على هويتها، ولديها أيضاً مروحة واسعة من الحلفاء الإقليميين والدوليين المعارضين لتغيير الخارطة في الشرق الأوسط، والمطالبين بحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته.