أنطوان مسرّه*
في برامج متلفزة مع اختصاصيين وخبراء عسكريين، ومؤلفين ولا نقول باحثين، وقانونيين ولا نقول حقوقيين، ومثقفين بدون خبرة في الحالة الكارثية في لبنان، أصبح ضرورياً مقاربة برامج وكتابات وسجالات وحوارات من منطلق علم النفس السياسي اللبناني، بخاصة في كل ما يتعلق بالعلاقات الدولية وعلم النفس التاريخي.
ما هذا اللبناني الذي لا يتعلم، ولم يتعلّم منذ الحروب المتعددة الجنسيات في لبنان في السنوات 1975-1990 واتفاقية القاهرة في الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) 1969 وتداعياتها الكارثية وإلغائها في مجلس النواب في 21 أيار (مايو) 1987 ثم اتفاقية القاهرة المتجددة في 6 شباط (فبراير) 2006، وبعد مجمل الاغتيالات والمغامرات والمقامرات؟
الحاجة إلى معالجات في علم النفس العيادي السياسي psychanalyse politique لذهنية لبنانية كانت ولا تزال وستبقى مصدر كوارث للبنان. نستبدل بعد اليوم: "راجع راجع يتعمّر" براجع راجع يتدمّر! لا مستقبل للبنان بدون تغيير في الذهنية السياسية اللبنانية بخاصة من خلال تعميم نقد ذاتي شامل لذهنية هي مصدر مصائبنا في سياق التحوّلات في عالم اليوم وبدون أن يتحوّل أي نقد ذاتي إلى رمي المسؤولية على الغير والآخرين ودول خارجية.
1. منطلقات مرضية. أبرز المنطلقات الذهنية المرضية التي هي مصدر كوارث للبنان ولم يتّعظ اللبنانيون بشأنها، بالرغم من المعاناة المستمرة والإنجازات المشتركة، هي التالية:
أ. الحروب بالوكالة: انتفت نسبياً بعد الاختراعات النووية والحروب المباشرة بين الدول والحروب بالوكالة من خلال دول صغيرة ضعيفة أو مستضعفة.
ب. حدود فعالية الأمم المتحدة: يجب أن يحمل هذا الواقع، بخاصة الدول الصغرى المعرضة لحروب إقليمية وبالوكالة، على إدراك حدود دورها في العلاقات الدولية ولعبة الأمم.
ج. إلقاء المسؤولية على الخارج: إن التمادي اللبناني في اتهام سياسات خارجية لأميركا وفرنسا وأي دولة عربية... هو هروب من المسؤولية وتعبير عن انعدام المسؤولية في الحياة العامة! تدافع دول خارجية عن مصالحها الوطنية. ما هي مصلحتنا الوطنية وما هي مسؤوليتنا... لبنانياً؟
د. عقدة الباب العالي: اللبناني هو دائماً في حالة انتظار تحوّلات خارجية ويستقوي غالباً بالخارج لمصلحة داخلية. إنه يعاني في علم النفس التاريخي psychologie historique مما يصفه غسان تويني عقدة الباب العالي complexe de la Sublime Porte واستمرارية هذه العقدة بعد إنشاء دولة لبنان الكبير في أول أيلول (سبتمبر) 1920 واستقلال 1943.
2. هل لدى اللبنانيين سياسة خارجية؟ صدر إعلان بعبدا بالإجماع بقيادة الرئيس ميشال سليمان في 11 حزيران (يونيو) 2012. ورد فيه: "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الإقليمية، وذلك حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقّة (...)" (البند 12). ثم صدر بيان بكركي حول "الحياد الإيجابي" في الخامس من تموز (يوليو) 2020.
ينساق مؤلفون ولا نقول باحثين، وقانونيون ولا نقول حقوقيين، وأيديولوجيون وسياسيون مخادعون في تأويلات وتفسيرات في الدبلوماسية والعلاقات الدولية والصراع العربي الإسرائيلي ويتلاعبون على الألفاظ بشأن حياد لبنان الرسمي في إطار جامعة الدول العربية! الموضوع حصرياً هو التالي: ما هي السياسة الخارجية... لبنانياً؟ كتب غسان تويني: "أية سياسة خارجية للبنان؟ إنها تعني، أكثر فأكثر حالياً، انعدامها. واجب لبنان أن يتحوّل إلى فاعل عربي بإطلاقية (...) لا أن يتحوّل إلى مساومة من قبل الغير كما حروبه التي كانت وما تزال مدارة من الغير. كيف يمكن أن يكون لنا سياسة خارجية ليست من صنع الآخرين؟ من الواقع أن حروبنا الموصوفة بأهلية خاضها آخرون وخسروها أو ربحوها حسب المراحل. اللبنانيون، لأي جهة انتموا، هم دائماً الخاسرون حتى حين يتوهمون الانتصار (...). يفقد لبنان مبرر وجوده إذا لم يكن رسول رسالته. أو حلمه... ولمَ لا؟"
(Ghassan Tuéni, Anatomie d’une politique étrangère otage, ENA-Mensuel, hors-série, juin, 2001 et Dar an-Nahar, 16 p.).
اعتمدت جهات حزبية، وذهنية لبنانيين، لا يدركون ما معنى الدولة ومعنى الاستقلال، سياسات خارجية مناقضة بإطلاقية للدستور اللبناني ومجمل البيانات الوزارية منذ 1943 تاريخ لبنان الرسمي. ويتحول أي بحث جدي إلى مزايدة حول العداء تجاه الكيان الصهيوني! لا مزايدة إطلاقاً بعد اليوم، إذ لا خلاف إطلاقاً بين اللبنانيين حول هذا العداء بالذات! يكمن الخلاف في وسائل الحماية والدفاع من خلال الدولة ومقاومة وطنية.
3. ما هي حالاتنا المرضية لبنانياً في علم النفس التاريخي اللبناني؟ إن الذين سعوا إلى دراسة علم النفس السياسي في لبنان نادرون وأبرزهم منير شمعون و Paul Grieger وبعض ملاحظات Louis-Joseph Lebret ومذكرات رجال دولة وبعض كتاباتنا حول دولنة المواطنية وعلم النفس السياسي اللبناني من خلال الوثائق التاريخية الدبلوماسية...
إن الخطاب حول المواطنية في لبنان، هو غارق غالباً في عموميات لا تتطرق إلى الواقع الذهني والثقافي لبنانياً. كتب محمد السماك: "ماذا يعني أن تكون مواطناً في دولة فاشلة؟" (المستقبل، 27/8/2016). وورد في كلمة الدكتور فيليب سالم تعبير، لم ينتبه إليه المشاركون خلال إطلاق "حركة الاستقلال الثالث" في 30/8/2024: "التغيير في العقلية السياسية"! ما هو التغيير في العقلية السياسية اللبنانية حيث الشطارة والتذاكي والتموضع لم تعد مُجدية؟
ما يتطلب المعالجة بالمفهوم الطبي العيادي ورد في "الإطار الوطني اللبناني لمنهاج التعليم العام ما قبل الجامعي" الصادر عن المركز التربوي للبحوث والإنماء في وزارة التربية والتعليم العالي والذي أعلن في السرايا الكبير في 15/12/2022. ورد ما يلي بخاصة حول "مثاقفة الدولة":
"تتطلب المبادئ (...) وما يرد في النشيد الوطني اللبناني: قولنا والعمل... في سبيل تجسيدها، عملاً ثقافياً وتربوياً للجيل الجديد، ولا سيّما بعد الخبرات المتراكمة في الاعتداءات والحروب والمعاناة والتراث والإنجازات المشتركة والأزمات الحديثة. تُشكّل هذه المبادئ الأساس لكل عمل وطنيّ مستقبلي عبر مختلف وسائل التنشئة، ولا سيّما في مراحل التعليم ما قبل الجامعيّ، سعياً إلى تحويل المبادئ إلى قناعة ذاتية راسخة وبناء المناعة تجاه المخاطر الداخلية والخارجية، واعتماد سلوك يومي في مفاصل الحياة العامة كلّها، ومثاقفة الدولة الضامنة للوحدة الوطنية، وخصوصية المجتمع اللبناني ودوره ورسالته، ولفاعلية القانون في دولة الحق. تستوجب التحولات، في عالم اليوم، مقاربات محكمة مع التنبه لما لها من مفاعيل سلبية وتأثيرات في المجتمع اللبناني" (ص 15).
تتطلب الحالة السائدة في الذاكرة وعلم النفس التاريخي تغييراً في الذهنيات والممارسات تجاه السلوكيات التالية: عقدة الباب العالي، المعليشية في قضايا جوهرية وسيادية، عدم الجديّة في شؤون مصيرية، الكلام السجالي بدون فعل نقيضاً للنشيد الوطني: قولنا والعمل، الانتهازية والتموضع والتكاذب والتذاكي حسب الظروف والمصالح الخاصة، الفردانية على حساب المصلحة العامة، ذاكرة وذكريات مشتّتة بالرغم من الاختبار اللبناني الطويل والمعاناة والإنجازات المشتركة، ومثقافة الدولة في وظائفها الأربع المسماة ملكية (rex, regis, roi): جيش واحد لا جيشان، ودبلوماسية واحدة لا دبلوماسيتان وانسجاماً مع مقدمة الدستور: لبنان عربي الهوية والانتماء، فرض الضرائب وجبايتها، إدارة السياسات العامة. جاء في كلام أحد السفراء الأوروبيين المعتمدين في لبنان: "إذا كنتم مستمرون في ألاعيبكم manigances فلا يمكنكم الاعتماد على دبلوماسيتنا"!
يصدر عن كرسي اليونسكو لدراسة الأديان المقارنة والوساطة والحوار في جامعة القديس يوسف في أواخر 2024 ثلاثة اصدارات تطبيقية: روحية التربية، والتربية المواطنية لبنانياً، وأي تربية تاريخية لبنانياً؟
*عضو المجلس الدستوري، 2009-2019