د. فادي جورج قمير
يوم 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2024 لم يكن يوم أحدٍ عادياً في تاريخ الكنيسة المارونية خاصةً والمسيحية عامَّةً، بل كان يوماً مجيداً: فرحٌ على الأرض وفرحٌ في السماء وله دلالات كبيرة للمسيحيين وللمُضطهِدين على السواء. في هذا اليوم التاريخي احتفلت الكنيسة، بفرح غامر، بإعلان قداسة ثمانية من الرهبان الفرانسيسكان والإخوة المسابكيين الثلاثة، وهم موارنة علمانيون ترك، إيمانهم الثابت وفضائلهم المسيحية، بصماتها على التاريخ. يُذكِّرُني هذا الحدث بلقاء لا يُنسى، عقدته قبل أكثر من عشر سنوات مع سيادة المطران العظيم غي نجيم. لقد زارني آنذاك في منزلي لرؤيتي وبشكلٍ خاص ليُطلعني ويُعرّفني على هذه الشخصيات الثلاث المثالية في إيماننا المسيحي.
كان الإخوة المسابكيون: فرنسيس وعبد المعطي وروفائيل رجالاً يتمتّعون بإيمانٍ عميقٍ ثابتٍ وتقوى عظيمة. تحدّروا من عائلةٍ مسيحيةٍ نبيلةٍ من دمشق. لقد عاشوا في القرن التاسع عشر، وقد عُرفوا بإخلاصهم وكرمهم والتزامهم الديني تجاه مجتمعهم. فقد كانت حياتهم شهادة حيّة للقيم المسيحية، كما كان استشهادهم عام 1860، أثناء صلاتهم داخل الكنيسة التابعة لدير الرهبان الفرانسيسكان، بمثابة تتويج لمسيرتهم الإيمانية حبّاً بالمسيح.
فرنسيس أبٌ لثمانية أطفال وهو تاجرٌ ثريّ، كان معروفاً بكرمه وإخلاصه الكبير للوردية. كان يُمثِّــل البطريرك الماروني في سوريا وكان أحد أعمدة طائفته. إن جوابه الشجاع على المُهاجمينَ والمُضطهِدينَ للمسيحيين في تلك الليلة، ورفضه التخلّي عن إيمانه رغم التهديد بالقتل، يشهد على إيمانه الذي لا يتزعزع.
أمّا عبد المعطي مسابكي، فقد كان هو أيضاً متزوجاً، ورجلاً مؤمناً وصاحب أخلاقٍ حميدة. بالإضافة إلى أنّه كان مُدرِّساً في المدرسة الفرانسيسكانية، وكان مثالاً للتقوى والإخلاص. وشجّع طلابه على البقاء مُخلصين لإيمانهم، حتى في مواجهة الاضطهاد.
والأخ الثالث روفائيل مسابكيّ، وهو الأصغر بينهم، كان عازباً ومعروفاً ببساطته وحبّه البنوي لمريم العذراء. لقد خدم الكنيسة بكل أمانةٍ بصفته قندلفتاً. وكان يقلّد، بكل سعادة ومحبّة، إخوته الأكبر سناً منه بإخلاصهم لإيمانهم.
لقد اتَّسمت روحانية الأخوة المسابكيين بالإيمان البسيط والراسخ المُتأصِّل في حياتهم اليومية. إن التزامهم بالصلاة وممارسة الأسرار والمحبة تجاه الفقراء، يعكس روحانية في مُتناول جميع المسيحيين، مبنية على الإيمان الصحيح، الحي والفعّال.
مثال يُحتذى به للعلمانيين في الكنيسة الكاثوليكية العالمية
إن فضائل الأخوة المسابكيين المسيحية هي مثال قوي لعلماء الكنيسة الكاثوليكية الجامعة، ولا سيما العلمانيين الموارنة. في مرحلة يمرّ فيها لبنان بأزمة اجتماعية واقتصادية صعبة للغاية، تتّسم بالفساد والانهيار، يُذكّرنا الإخوة المسابكيين بأهمية مركز الإيمان والنزاهة والمسؤولية الاجتماعية في حياتنا.
الارتباطـ وتقديس العمل
إن مثال الإخوة المسابكيين يتطابق أيضاً مع روحانية المنظمة الكاثوليكية "عمل الله"، التي تركّز وتشجّع على تقديس العمل الذي يقوم به العلمانيون المُلتزِمون. مثل الإخوة المسابكيين، مدعوون لعيش إيمانهم في حياتهم اليومية، من خلال عملهم ومسؤولياتهم العائلية والاجتماعية. إن تقديس العمل، يتمثّـل في تقديم العمل لله، والقيام به بامتياز واستخدام المواهب من أجل الصالح العام.
ومن خلال الاقتداء بمثال الإخوة المسابكيين، يستطيع العلمانيون الموارنة وجميع المؤمنين أن يساهموا في إعادة بناء المجتمع اللبناني، من خلال عيش إيمانهم وممارسة الفضائل المسيحية بشكل صحيح ومن خلال المشاركة الفعّالة بأعمال تعود بالخير على المجتمع والوطن.
في النهاية لا يسعنا سوى القول إن لبنان يُدَمَّر نتيجة عدم ممارسة الفضائل المسيحية الحقَّة والفضائل الإنسانية العالمية من قبل بعض المسؤولين ولنتَّعظ من القديسين، كيف يجب أن نبني المجتمع والوطن. فليكن هذا اليوم المجيد يوماً تاريخيّاً وروحياً ماثلاً أمام أعيننا جميعاً، لنَعيَ وندرك أهميَّة ممارسة الفضائل المسيحية والإنسانية، والتحلّي بإيمانٍ ثابتٍ لا يتزعزع، والمجاهرة به دون خوف. فليتعِظ العلمانيون والمُهاجمون والمُضطهِدون أن شهادة الدم من أجل المجاهرة بالإيمان، هي الأسمى. فالإخوة المسابكيون قُتلوا بفظاظة وسُفِكَت دماؤهم، لكنّ القاتلين المهاجمين لم يتمكنّوا من قتل أرواحهم التي ارتفعت نحو مذبح السماء مقر الأبرار والقديسين والشهداء الأبطال وتمّ إعلان قداستهم على مذابح الكنيسة وأصبحوا شفعاء للإنسانية جمعاء كسائر القديسين. فمّن كان له هذا الإيمان لن يموت وإن مات أو قُتِل فسيحيا بأعماله وستبقى مسيرته مثالاً ساطعاً للأجيال قاطبة. فمن قُتِل مات وانتهت حياته على هذه الأرض أمّا الشهادة الأخرى والأصعب هي التي يؤدّيها اللبنانيون، حالياً، على مختلف انتماءاتهم بالبقاء على قيد الحياة وتحمّل كل ما يمرّون به من مشقَات ومعاناة نتيجة عدم الإلتزام بالفضائل الانسانية.
عل أمل أن ينهض لبنان من كبوته وتنتهي هذه الحرب التي لن تجلب إلاّ المزيد من الدمار والتشريد والمآسي والويلات.