وارف قميحة*
انعقدت القمّة الـ16 لدول مجموعة الـ"بريكس" في قازان، روسيا، بتاريخ 24 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2024، حيث ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ كلمة محورية في اجتماع "حوار قادة بريكس بلس"، مؤكّداً التزام الصين المستمرّ بالعمل من أجل تعزيز التعاون مع دول "الجنوب العالميّ"، بغضّ النظر عن التغيّرات العالمية. خطاب شي كان بمنزلة دعوة للتمسّك برؤية بعيدة المدى تسعى نحو بناء "مجتمع المستقبل المشترك للبشرية"، بهدف تحقيق العدالة والمساواة، وتعزيز التنمية المستدامة، وتوحيد الجهود لمواجهة التحديات العالمية.
الـ"بريكس": منصّة متنامية للدول النامية
تُعدّ مجموعة الـ"بريكس" منصة محورية لتمثيل الاقتصادات الناشئة والدول النامية، حيث تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. تأسّست المجموعة لتكون بديلاً استراتيجياً عن الأطر العالمية التقليدية، وتهدف إلى خلق نظام دوليّ أكثر توازناً وإنصافاً، ما يتيح للدول النامية فرصة أكبر للتأثير في القرارات العالمية.
في ظلّ قيادة الصين، تزايد الدور الإستراتيجيّ للمجموعة، حيث أصبحت بمثابة "المحرّك" الرئيس لدول الجنوب العالميّ. تعكس القمّة الـ16 هذا التوجّه، إذ جرى توسيع إطار المشاركة ليشمل دولاً جديدة من الجنوب العالميّ، بهدف تعزيز التعاون وتحقيق التنمية المستدامة.
رؤية شي جين بينغ: خمسة مقترحات محورية للتعاون
في خطابه، قدّم شي جين بينغ خمسة مقترحات رئيسة لتعزيز التعاون بين دول الـ"بريكس"، شملت السلام، الابتكار، التنمية الخضراء، العدالة، والتبادل الشعبي. يمثّل هذا الطرح رؤية متكاملة لتطوير المجموعة بشكل يتماشى مع المتغيرات العالمية ويخدم مصالح شعوبها، كما يعكس التزام الصين بالعمل على تعزيز الأمن والاستقرار العالميين من خلال التعاون متعدّد الأطراف.
1- تعزيز السلام: يبرز التزام دول الـ"بريكس" بالسلام كأحد أولويات التعاون. تدعو هذه الدول إلى تخفيف التوترات الجيوسياسية والعمل على إنهاء الصراعات، بما يساهم في تحقيق الاستقرار العالمي. يتمثل هذا الهدف في تعزيز التواصل بين الدول الأعضاء وتعزيز الحوار، وهو ما يدعم جهود الصين الرامية إلى تحقيق عالم أكثر استقراراً وعدالة.
2- الابتكار: الابتكار هو المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي والتنمية. تعهّدت الصين بتعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وهو ما يتيح للدول الأعضاء الاستفادة من التقنيات الحديثة وتوظيفها لتعزيز الإنتاجية وتحقيق التنمية المستدامة. تلتزم الصين بدعم دول الجنوب العالميّ في هذه المجالات، ما يعزّز من قدراتها التقنية والتكنولوجية، ويسهم في نقل الخبرات والتكنولوجيا المتقدمة.
3- التنمية الخضراء: في ظلّ التحديات البيئية العالمية، تؤكّد الصين أهمية التنمية الخضراء، وتسعى إلى تحقيق تحوّل اقتصادي يعتمد على مصادر الطاقة المتجددة ويحافظ على البيئة. التعاون في مجالات الاقتصاد المستدام وتقليل الانبعاثات يمثل جزءاً مهماً من رؤية الصين، وهو ما يسهم في تحقيق تنمية صديقة للبيئة ويعكس التزام المجموعة بمواجهة التحديات البيئية العالمية.
4- العدالة: تدعو الصين إلى إقامة نظام عالمي أكثر عدالة، يتضمّن منح الدول النامية فرصاً متساوية لتحقيق النمو والازدهار. يتجلّى هذا التوجّه في تعزيز نظام دولي متعدّد الأقطاب يُعلي من قيم العدالة والمساواة. كما تؤكّد الـ"بريكس" ضرورة تعزيز إصلاح الحوكمة العالمية بحيث تتماشى مع المتغيّرات الاقتصادية وتتيح للدول النامية دوراً أكبر في صنع القرار العالميّ.
5- تعزيز التبادل الشعبيّ: ترى الصين أنّ بناء العلاقات بين الشعوب يسهم في تعزيز التفاهم المتبادل والتعاون الثقافي بين الدول الأعضاء. في إطار هذا التوجه، تسعى الـ"بريكس" إلى تعزيز البرامج الثقافية والتعليمية التي تقوّي من روابط الصداقة بين شعوب الدول الأعضاء. وهذا من شأنه أن يُسهم في دعم التفاهم المتبادل وتعزيز الشعور بالانتماء إلى مجتمع مشترك للبشرية.
تعزيز التعاون الاقتصاديّ: بنك التنمية الجديد واستخدام العملات الوطنية
تلعب الـ"بريكس" دوراً محورياً في تعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، وأحد أبرز المشاريع في هذا الإطار هو بنك التنمية الجديد، الذي يهدف إلى دعم المشاريع التنموية في دول الـ"بريكس" وغيرها من الدول النامية. هذا البنك يعدّ مبادرة رائدة، حيث يسهم في توفير تمويل مستدام للمشاريع التنموية باستخدام العملات الوطنية بدلاً من الاعتماد على الدولار، وهو ما يعزز من الاستقلال الاقتصادي للدول الأعضاء ويقلل من تأثير التقلبات في الأسواق العالمية.
أكّد القادة في القمة ضرورة تعزيز استخدام العملات الوطنية في تسوية المعاملات التجارية والاستثمارية بين الدول الأعضاء، وهو ما يعكس توجّهاً واضحاً نحو تحقيق نظام ماليّ أكثر توازناً واستقلالية. كما اتّفقت دول الـ"بريكس" على دعم بنك التنمية الجديد في تنفيذ استراتيجيته للفترة من 2022 إلى 2026، ما يُسهم في توسيع دوره وتعزيز مكانته كأداة فاعلة لدعم التنمية المستدامة في دول الجنوب العالميّ.
قمّة "بريكس": تأكيد تعددية الأطراف في مواجهة التحديات العالميّة
تأتي قمّة "بريكس" هذا العام وسط بيئة عالمية مضطربة، حيث تتزايد التوترات الجيوسياسية وتتصاعد التحديات الاقتصادية. وفي ظلّ هذه الأجواء، أكّدت القمة ضرورة تبنّي التعددية كوسيلة لمواجهة هذه التحديات، حيث تمثّل "بريكس" قوة دافعة نحو تعزيز التعاون الدولي وتعزيز الاستقرار. دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تعزيز استخدام العملات الوطنية وتمويل التجارة والاستثمار بشكل مستقلّ عن الدولار، فيما أكّد الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا ضرورة تفعيل التعددية لتجنّب الاعتماد على الهيمنة المالية لأطراف بعينها.
يُظهر التعاون المتزايد بين دول "بريكس" أنّ المجموعة تلتزم بإنشاء نظام عالمي متعدّد الأقطاب يعكس التغيرات الاقتصادية الجارية في العالم. وفي هذا السياق، أشار الباحث السياسي أحمد العلي إلى أنّ "بريكس" تمثّل منصّة حيوية للدول النامية لمواصلة النمو والازدهار، من خلال تعزيز نظام دولي أكثر إنصافاً وفعالية، وهو ما يحقّق أهداف التنمية المستدامة ويخلق فرصاً للتحديث الاقتصادي والاجتماعي.
الجنوب العالميّ: تعاون متبادل لتحقيق التنمية المستدامة
إنّ أحد أهم رسائل قمّة "بريكس" في قازان هو التزام المجموعة بتعزيز التعاون مع دول الجنوب العالميّ، حيث تسعى "بريكس" إلى بناء نظام عالمي يعزّز قدرة الدول النامية على تحقيق التنمية المستدامة. ينعكس هذا التوجّه من خلال دعوة عدد من الدول كدول شريكة للمشاركة في القمّة، ما يعزّز من الروابط الاقتصادية والسياسية بين الدول الأعضاء ودول الجنوب العالميّ الأخرى.
تتوافق هذه الرؤية مع دعوة الرئيس الصيني شي جين بينغ لإقامة "مجتمع المستقبل المشترك للبشرية"، حيث يسعى إلى تحقيق تعاون عالميّ يستند إلى مبدأ المساواة والاحترام المتبادل. تدرك دول "بريكس" أنّ مواجهة التحديات العالمية تتطلّب تعاوناً متعدّد الأطراف، وأنّ تحقيق التنمية المستدامة لا يمكن تحقيقه إلّا من خلال توفير فرص عادلة للدول النامية، وتحقيق تكامل اقتصادي عالمي يعزّز من رفاهية جميع الشعوب.
نحو مستقبل أكثر إشراقاً: قمّة "بريكس" والفرص المستقبليّة
تأتي رؤية الرئيس شي جين بينغ لتعاون "بريكس" الكبرى كجزء من السعي لبناء مجتمع عالميّ أكثر عدالة واستدامة. يمثّل الابتكار والتعاون في مجالات التحوّل الرقمي، والذكاء الاصطناعي، والصناعة الخضراء، أركاناً أساسية لرؤية شي، حيث تهدف الصين إلى أن تكون شريكاً رائداً في قيادة التحوّل نحو اقتصاد عالميّ أكثر استدامة وانخفاضاً في الكربون. وفي ظلّ هذا التوجه، تسعى الصين إلى تعزيز التعاون التقني مع دول "بريكس"، ما يفتح آفاقاً جديدة للتطوير والنموّ.
في ختام القمّة، تعزّزت الثقة بأنّ مجموعة "بريكس" ستكون قادرة على تعزيز الاستقرار والنمو في الجنوب العالميّ، والدفع في اتجاه بناء نظام عالميّ أكثر إنصافاً.
*رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث ورئيس الرابطة العربيّة الصينيّة للحوار والتواصل