ريـمون شاكر*
منذ بداية الثمانينيات وبُعيد انتصار ثورة آية الله الـخميني على الشاه ونظامه، بدأت السلطات الإيرانية بتصدير ثورتـها الإسلامية إلـى البحرين والعراق واليمن وسوريا ولبنان، وحتى إلـى شـمال أفريقيا، عن طريق استنهاض الروح الطائفية عند شيعة هذه البلدان، والدعوة إلـى "ولاية الفقيه"، وتحفيز ولائهم لإيران بطريقة غيـر مباشرة، فاستطاعت من خلال دعمها بالأسلحة والتدريب والـمساعدات الـمالية، لأكثر من 20 مـجموعة وحركة، ولا سيما بعد سقوط صدام حسيـن عام 2003 على يد الأميركييـن، السيطرة على أربع عواصم عربية ومنها بيـروت. فطموح "الولـيّ الفقيه" هو فـي تـحقيق حلم الإمبـراطورية الفارسية الصفوية الكبـرى، وترسيخ الإيديولوجية الإيرانية الشيعية...
فمنذ أن تسلّم الـخميني الـحُكم، غيّـرت إيران وبدّلت الطائفة الشيعية اللبنانية، ونقلتها من وجهة إلـى أخرى، ومن مرجعية النجف العربـي الأشرف، إلـى وجهة قمّ "الولـيّ الفقيه"، الطامح لإعادة بناء مـجد الإمبراطورية الفارسية الصفوية، الساعية إلـى نفوذ وموطئ قدم على شاطئ الـمتوسط، وبدأت دولة الـملالـي تـمدّ نفوذها خارج حدود إيران عبـر الاستثمار فـي القضية الفلسطينية التي تُعدّ قضية العرب الأولـى، ساعدها فـي ذلك "قبة باط" أميـركية لتخويف العرب بالـخطر الإيرانـي ومشاريعه الـتوسّعية، ولنهب ثروات دول الـخليج الـخائفة على عروشها ومصالـحها...
فـي لبنان، استغلّت إيران الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، فأرسلت نـحو 1000 عنصر من الـحرس الثوري الإيرانـي، مـا أدّى إلى إنشاء "حزب الله" عام 1985، ودعمته بالـمال والسلاح وبكل أنواع الـمساعدات، لنشر الفكر الشيعي من جهة، ولـمواجهة إسرائيل من جهة أخرى، حتى بلغ حجم الدعم السنوي الذي تقدّمه إيران لـ"حزب الله" نـحو 700 مليون دولار. وهكذا أصبح لإيران كيان دائم داخل لبنان، فازداد النفوذ الإيرانـي ولا سيما بعد خروج السورييـن عام 2005، وبعد حرب تـموز (يوليو) 2006 بيـن "الـحزب" وإسرائيل، وبات سلاح "الـحزب" سلاحاً إقليمياً لا داخلياً فقط، بدليل تدخّله فـي الـحرب في سوريا والعراق واليمن، وتقديـم الدعم اللوجستي والتدريب لكل حلفاء إيران فـي الـمنطقة.
استغلّ "الـحزب" فائض القوة الذي بلغه، فاحتلّ بيـروت عام 2008 وكسر قرارين لـمجلس الوزراء، وفرض معادلة "جيش وشعب ومقاومة" فـي كل البيانات الوزارية التي طالـما اتـخذ منها مظلّة لتغطية دور سلاحه، ولـم تقتصر سطوته عند فائض القوة العسكرية، بل امتدّت إلـى الواقع السياسي، فوضع يده على مفاصل الدولة، وفرض هيمنته على الـمجلس النيابـي وعلى تشكيل الـحكومة وقراراتـها، وعلى انتخاب رئيس الـجمهورية، فأسقط حكومة الوفاق الوطني بقيادة سعد الـحريري عام 2011، وأبقى كرسي رئاسة الـجمهورية شاغراً سنتيـن ونصف السنة حتى فرض حليفه العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. وإثر حصول فريق "الـمُمانعة" على 74 نائباً فـي البـرلـمان اللبنانـي اعتبـر الـمرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية أنّ "هذا الفوز انتصار لإيران فـي الداخل اللبنانـي على الصهاينة، لأنّ ذلك سيزيد النفوذ الإيرانـي فـي لبنان ويقلّل الـخطر الإسرائيلي"!
استـراتيجية إيران التوسّعية لـم تتغيّـر منذ أن أطلقت ثورتـها خارج الـحدود، ولن تتخلّى عن أذرعها العسكرية التي كلّفتها مئات مليارات الدولارات، ولا سيما "حزب الله" الذي يـمثّل قيمة كبيـرة لإيران فـي الـمنطقة، بل تريد أن تـحتفظ بكل أوراقها التفاوضية وأهـمّها "الـحزب" ولبنان.
على رغم الانتكاسات الـمتتالية التي تعرّضت لـها طهران بـما فـي ذلك اغتيال إسرائيل للأميـن العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله وقادة "الـحزب"، والأضرار الكبيـرة التي أصابت منشآتـها العسكرية من جراء ضربات سلاح الـجوّ الإسرائيلي، فإيران ستسعى أكثر من أيّ وقت مضى إلـى تثبيت حضورها والاحتفاظ بنفوذها، وستمدّ "الـحزب" بالـمال والسلاح والـخبـراء والضباط ليستعيد قوته ونفوذه، فهو إحدى أهمّ أوراقها التي تضغط بـها على الغرب، وهو الذي بفضله جعل قاسم سليمانـي يفتخر مراراً بتبعية لبنان وخضوعه لـمحور إيران، وجعل رئيس البرلـمان الإيرانـي مـحمد باقر قاليباف يعتبـر أنّ لبنان بات تـحت رعاية الـمـُرشد الإيرانـي علي خامنئي الذي هو "بـمثابة الركيزة الأساسية للبنان".
صحيح أنّ الثورة الإيرانية لـم تتمكّن من احتلال لبنان، لكنها نـجحت من خلال "حزب الله"، فـي منع قيام الدولة الفعلية وتعطيلها والتسلّط عليها، ولا حلّ للأزمة اللبنانية إن لـم يـمتثل "الـحزب" لقرارات الأمم الـمتحدة 1559 و1680 و1701، ويسلّم سلاحه للجيش اللبنانـي، فالـجيش هو الـخيار الاستـراتيجي الوحيد لـحماية لبنان.
*باحث وكاتب سياسي