النهار

مخاطر استخدام العنف أثناء تحقيقات الضابطة العدلية
المصدر: النهار
قانون أصول المحاكمات الجزائية وقانون تنظيم قوى الأمن الداخلي يُحددان أصول عمل هذه القوى كضابطة عدلية تعمل بإشراف النيابة العامة، ويُلزمان هذه القوى باعتماد أصول التحقيق بعيداً من العنف والتهديد والابتزاز
مخاطر استخدام العنف أثناء تحقيقات الضابطة العدلية
العبرة تبقى في تطبيق القانون
A+   A-

العميد المتقاعد أنور يحيى *


مطلع شهر أيلول (سبتمبر) 1981، كان اللبناني توفيق يشارك المواطن السوري سعيد الغرفةَ المستأجرة من كليهما في مبنى "يعقوبيان" الفخم (قبل حرب السنتين 1975-1977)، في محلة كركاس (الروشة)، ضمن النطاق الإداري للعاصمة بيروت، والذي تحوّل قسم منه إلى نزل زهيد ومتواضع للمنامة، في تلك الفترة. لم تكن تربط بين الرجلين أي معرفة سابقة. التقيا صدفة هناك ببدل (مادي) قليل لتمضية ليلة وترك النزل في صباح اليوم التالي.

نهض توفيق نحو الساعة الثامنة صباحاً فلم يُشاهد سعيد، الذي تبيّن من إدارة النزل أنه غادر باكراً، بعد دفع البدل المحدّد مع حقيبة يد بسيطة. تفقّد توفيق محفظته التي خبأها في جيب بنطاله، فلم يجدها، وفيها إضافةً إلى بعض المال، أوراقُه الثبوتية وجواز سفر ينوي تقديمه إلى إحدى السفارات للحصول على تأشيرة سفر. ثار وانفعل، وتوجّه إلى فصيلة شرطة حبيش المكلفة بأمن محلة رأس بيروت، وادّعى على مجهول بجرم سرقة أمواله وأغراضه الشخصية، ووجّه الاتهام إلى السوري سعيد، شريكه في الغرفة، والذي غادر باكراً إلى جهة مجهولة.

أجرت دورية من شرطة حبيش الكشف الحسيّ على المكان، ولم يتبين وجود كسر أو خلع أو عنف، وحامت الشبهات حول السوري الذي شارك المدعي الغرفة. تابعت مكان وجوده، حيث تم استجوابه بجرم السرقة، فأنكر أي علاقة له بها وأنه غادر الغرفة باكراً متوجهاً إلى المطار لاستقبال عائلته القادمة من بريطانيا!

بمراجعة النيابة العامة الاستئنافية في بيروت، أشارت بتوقيف سعيد وإيداعه مع محضر الشرطة مفرزة بيروت القضائية لمتابعة التحقيق وكشف خفايا سرقة محفظة توفيق.

أحال الرائد عبد الكريم إبراهيم آمر المفرزة ملفَ التحقيق على الملازم الأول أنور يحيى، رئيس قسم السرقات؛ وبعد التدقيق، أحاله على دورية في القسم بإمرة الرقيب الأول سعد لمتابعة التحقيق مع المُشتبه فيه سعيد، وكشف خفايا سرقة محفظة توفيق.

صباح اليوم التالي، تقدّم الرقيب الأول من رئيس القسم، وأفاده بأن سعيد اعترف بعملية السرقة لأنه يحتاج المال، وغادر النزل قبل نهوض توفيق خوفاً من اكتشافه.

استدعى الضابط  المشتبه فيه ليمثل أمامه، وكان لا يقوى على الوقوف على قدميه، بل يتحرك بمساعدة الدورية. وتبين أنه أُخضع إلى تحقيق عنيف طال جسمه لا سيما رجليه! سأل الرقيب الأول: لماذا استخدم العنف القاسي مع المشتبه فيه؟ فردّ:

"سيّدنا حرامي وما بيعترف إلا ما يأكلها منيح"!

سأل الضابط المشتبه فيه المُعترِف بجرم السرقة: أين موجودات المحفظة؟

رد: أخذت المال وصرفته! ورميت المحفظة فوق صخرة الروشة القريبة لإخفاء الأدلة!

لم تكن لدى الضابط حينها الخبرة الكافية، ووثق بعمل الدورية، لكنه نبّه عناصر القسم إلى وجوب عدم استخدام العنف أثناء التحقيقات كضابطة عدلية في نطاق عمل التحري. أصّر سعيد تكراراً بأنه سرق المحفظة أثناء نوم رفيقه، وأن الشيطان غرّر به، وأنه نادم على ما فعله. خُتم التحقيق، وأُحيل سعيد موقوفاً على النيابة العامة الاستئنافية في بيروت معترفاً بجرم السرقة.

بعد ثلاثة أشهر من اعتراف سعيد بسرقة محفظة توفيق في مبنى يعقوبيان، أوقفت دورية برئاسة المعاون وهيب عصابة سرقة، قوامها شابان لبنانيان: جاد وخضر، امتهنا حرفة سرقة الشقق عن طريق التسلق، واعترفا بعدة سرقات في العاصمة بيروت، منها سرقة من غرفة في الطابق الأول في مبنى يعقوبيان الروشة!

استمع الضابط إلى أقوالهما شخصياً بحضور دوريةٍ، حيث قال أحدهما إنه حمل رفيقه على كتفه ليدخل الغرفة حيث يرقد فيها شابان، وتمكّن من سرقة محفظة من جيب بنطال مٌعلّق، فيها 60 ليرة وجواز سفر، وقد بدّد المبلغ، وما زال الجواز في منزله. فتّشت الدورية المنزل، وضبطت الجواز باسم توفيق، وتحققت من اسم المدعي بالسرقة كاملاً. 

رافق الضابط الدورية وعصابة السرقة إلى مدخل مبنى يعقوبيان ومثّلا طريقة الدخول إلى الغرفة المفتوحة نوافذها، وكيف عاد السارق ونزل بمعاونة رفيقه!

تأثر الضابط جداً لتحققه من أن "سعيد" (السوري) اعترف بسرقة المحفظة من جيب توفيق، تحت العنف والتهديد، حين عجز عن السير والوقوف على قدميه من شدة الضرب المبرح؛ أعلم الرائد آمر المفرزة الذي تأثر وقال: لا يجوز الحصول على اعتراف المشتبه فيه الكاذب للتخلص من عنف يناله ضمن الشرطة القضائية، لأن الحقيقة يجب أن تثبت بالأدلة الصحيحة، وليس بالاعتراف الكاذب للتخلص من العنف، وطلب إلى الضابط التوجه إلى مكتب النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي منيف عويدات، مع المحاضر المنظمة والوقوف على توجيهاته.

تأثّر المدعي العام الاستئنافي من وحشية التحقيق وأسلوب العنف للحصول على الاعتراف الكاذب، وكلّف قاضياً مساعداً له التفتيش عن السوري، الذي اعترف أمام قاضي التحقيق خوفاً من إعادته إلى دورية التحري، وإحضاره إليه. وكان في مرحلة الإحالة على الهيئة الاتهامية في بيروت، حيث صار الاستماع إليه مجدداً بعد أن طمأنه المدعي العام، وقال:

"يا سيدي ما لي علاقة بالسرقة، بس اعترفت تحت الخبيط والتهديد"!

أخلى سبيله على الفور، والحمد لله الذي لم يصدر الحكم بإدانته في وقتها؛ وأصدر النائب العام الاستئنافي في حينه مذكرة إلى عناصر الضابطة العدلية كافة العاملين في محافظة بيروت تمنع استخدام العنف خلال مراحل التحقيق كافة لدى قطعات الضابطة العدلية: شرطة بيروت، والشرطة القضائية والأمن العام، تحت طائلة الملاحقة العدلية وضرورة المحافظة على كرامة الإنسان، وأن تكون الأدلة الجرمية هي الطريق الوحيدة لكشف الجرائم وليس الاعتراف الكاذب!

إن قانون أصول المحاكمات الجزائية، وقانون تنظيم قوى الأمن الداخلي، يُحدّدان أصول عمل هذه القوى كضابطة عدلية تعمل بإشراف النيابة العامة المختصة، ويُلزمان هذه القوى باعتماد أصول التحقيق في الجرائم الجزائية المرتكز على الأدلة الجرمية والشهود، بعيداً من العنف والتهديد والابتزاز، وملاحقة المرتكبين عدلياً أمام القضاء ومسلكياً أمام المجالس التأديبية. وقد استحدثت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي قسماً لحقوق الإنسان يعمل ضمن إدارة المفتشية العامة، ولا تتهاون أبداً في مكافحة وملاحقة المرتكبين وإنزال القصاص المناسب بهم. هذا كان في العام 1981. واليوم، صدر القانون الرقم 191 تاريخ 22/10/2020 الذي يرمي إلى تعزيز الضمانات الأساسية وتفعيل حقوق الدفاع، لكن العبرة تبقى بالتطبيق، وبعدم تكرار قضية سعيد، وهذه مهمة القضاء لإحقاق الحق بتنفيذ القانون والمحافظة على كرامة وحقوق المشتبه فيه، فهو إنسان أضحى بين يديّ موظف ذي سلطة  ومُكلف بتنفيذ القانون وليس بمخالفته لدوافع شتى!

*قائد سابق للشرطة القضائية

اقرأ في النهار Premium