البروفسور نجيب جهشان
انتقلَ المعلِّمُ المُلهَمُ والجراحُ الكبير أنطوان غصين إلى جوار ربّه في آواخرِ أيام تشرين الأول (أكتوبر)، تاركاً فراغاً واسعاً في المجتمع الطبيّ اللبناني والوسطِ الأكاديمي، فبكى لفقدِه جميعُ الذين عرفوه وعايشوه من أطباءَ ومرضى وعلماءَ ومثقفين.
كان أنطوان غصين عَلماً كبيراً من أعلامِ لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين وفي العقدَين الأوَّلَين من القرن الواحد والعشرين: بدأ إبداعَه يانعاً في مسقط رأسِه زحله، وتوّجَهُ رئيساً لدائرة الجراحة في مستشفى أوتيل ديو وعميداً لكلية الطبّ ورئيساً لجمعية الجراحة، ولم يهدأ أبداً في بحثه عن العلمِ والحقيقةِ في الطب والإنسانيات في شيخوختِه المهيبة. كان مِثالاً يُحتذى لمئاتِ الأطباء الذين درسوا الطبّ في رعايتِه وعشراتِ الجراحين الذين تمرّسوا على هذه المهنةِ بمعيَّتِه. طوّرَ لذاتِه منهجيةً رائعةً في تلقينِ العلوم الطبيّة والجراحيّة، وجالَ في سائر الأقطار باحثاً عن الإبداعاتِ العلمية لينقلَها الى لبنان ويضعَها بتصرُّف طلابه وفي خدمة مرضاه. تميّزَ بفضولية علمية نادرة جعلتْه عصامياً في مقاربته للمعارف يطوّرُ، في كل يومٍ ومع كل سقيمٍ يراجعُه، معرفتَه الشخصيةَ وتقنيتَه المهنيةَ ووسائل العلاج التي يلجأُ إليها ليشفيَ مرضاه.
أبدعَ في التأقلم مع كل إكتشاف علميٍّ حديث، وفي إستنباطِ طرقٍ متجدِّدةٍ للتشخيص والعلاج، فبنى سيرةً جراحيةً قلَّ نظيرُها في لبنان، وإستجرَّ محبةَ جحافلِ المرضى الذين أبتغَوا الشفاء بيدَيه، فلمع نجمُه في مسقطِ رأسِه زحله وفي البقاع وبيروت وفي كل لبنان. كان من أوائلِ الأطباء فاكتسبَ شهرةَ المنقذِ والمخلص. أضحى، في بيروت لاحقاً. أدخلوا الجراحةَ الحديثة إلى منطقة البقاع التي كانت تفتقر في منتصف القرن العشرين للأطباءِ المهرة والمستشفياتِ الرصينة. عالجَ هناك بمهارةٍ عاليةٍ أناساً تعدَّدت أمراضُهم وصعُبَت، فأصبح أحدَ النجومِ الأكثر تألقاً في الجراحةِ اللبنانية واستحقَّ أن يُنتخبَ رئيساً فخرياً مدى الحياة للجمعية اللبنانيةِ للجراحة العامة وأن يكونَ أوَّلَ من يحصلُ على جائزة اليدِ الذهبية التي مًنِحت لكوكبةٍ من الجراحين اللبنانيين المميّزين. ترأسَ العديدَ من المؤتمرات الجراحية واللقاءات العلمية في هذه الجمعية، فاستحالَ لبنانُ في عهدِه خليّةَ نحلٍ ومركزِ لقاءٍ للعلماء من سائر الأقطار.
كانَ من أبرز أساتذةِ الطب والجراحة في لبنان، مُمتهناً التعليمَ الجامعيَّ إلى جانبِ الممارسةِ الجراحية، فاستحقَّ بجدارةٍ عمادةَ كلية الطبّ في جامعة القديس يوسف اليسوعية في أصعب فترات الحرب الأهلية اللبنانية، خلفاً لصديقِه الحميم المخلص نجيب طالب الذي تشارك وإياه رؤيا الحداثةِ والتجديد والنهضة. عرفَ، في ذلك المنصب الرفيع، أنْ يختارَ أفضلَ المعاونين يشاركونَه الإدارةَ وأمهرَ الأساتذة ليبنيَ وإياهم أحدثَ البرامج وأفضلَها في لبنان والمشرق. وكانت فترةُ عِمادتِه، التي رافقتُه فيها نائباً له، فرصةً ملائمةً لإدخالِ أرقى طرقِ التعليم إلى البرامج الجامعية، مستوردةً بفطنةٍ وحكمةٍ من أميركا الشمالية وأوروبا. ومن أعظمِ إنجازاتِه التاريخية تأسيسُ برامج الإختصاص الجراحية، التي أتاحَت لعشراتِ الأطباءِ اللبنانيين دراسةَ الجراحة والتدرُّبَ في تقنياتها في مستشفيات لبنان التي تحوّلت إلى مؤسساتٍ جامعية، وكان لي شرفُ الحصولِ على أوّلِ شهادةٍ جراحيةٍ يوَقِّعها في حينِه. وأذكرُ بإعتزازٍ جهودَه الحثيثة لنشر الثقافة الطبية الحديثة في أوسعِ عددٍ من المستشفيات الرصينة، بدءاً بمستشفى أوتيل ديو حيث قاد المسيرةَ الجراحية المتجددة وصولاً إلى مستشفى القديس جاورجيوس الذي حصلَ بفضلِه على صفة المستشفى الجامعي للمرة الأولى.
عُرِفَ أنطوان غصين بطبائعِه الوديعة وإنسانيتِه الخالصة التي كانت ترى في كل مريضٍ أباً أو أخاً أو ابناً يستحقُ العطفَ والمؤاساةَ، وكان يُقبلُ إلى كل سقيمٍ يحاورُه بمحبةٍ ويشرحُ له بحكمةٍ وحنكةٍ قلَّ نظيرُهما داءَه وعلاجَه، فيستحيلَ له، في الحالِ، الطبيبَ الشافي والصديقَ السمير. كان يجولُ على مرضاه في كل يومٍ مرتَين ويرافقُ الأطباَء المتمرنين في دوراتِهم وغرفِ العملياتِ قابضاً على أياديهم، مدرّباً خطواتِهم، شارحاً بتأنٍ معالمَ الأمراض وطرقَ العلاج.
كان محاوراً لبِقاً، يقبلُ النقدَ البنّاءَ بتواضعٍ، ويسعى لتدوير الزوايا في النقاشِ وصولاً إلى الهدفِ، لا يستكبرُ ولا يعادي ولا يعتزُّ بنفسِه وبمآثره، وهي كثيرةٌ لا تُحصى. لم يأبَهْ لوجودٍ خصمٍ محتملٍ ولم يسعَ لخصامٍ مع منافسٍ، بل كان صادقاً وديعاً محبّاً يحترمُ الآخرَ، واضعاً نصبَ عينَيه لمَّ الشمل لتعميمِ الفوائدِ، طالباً رضى الزملاءِ ليرضى هو عن ذاتِه. كان له، في كلِّ لقاءٍ يشاركُ فيه، الكلمة الفصلَ. في الجراحة، كان المرجعَ الأكبر. في الثقافة، كان الحكيمَ الألمع. وفي الإدارة، كان الحكمَ الأرصن.
لا ينسى الوسطُ الطبيُّ اللبناني أنَّ فقيدَنا الكبيرَ هذا كتبَ، بفضل معرفتِه الدقيقةِ بخفايا الطبّ ومآثرِه في لبنان، وبعمقِ علاقاتِه الكثيرةِ في الوسط الجراحي، تاريخَ الجراحة في لبنان، فنشرَه في أشهر المجلاتِ العالمية، وكان لي أيضاً شرفُ مساعدته في كتابةِ هذا النصّ التاريخي. وتبقى لنا مؤلفاتُه ومقالاتُه المفعمةُ بالعلم والرصانة أثراً خالداً لن يفنى أبداً.
لروحه نصلّي كي تسكنَ في حضن إلهِه، ونرجو أن يكونَ ذكرُه مؤبداً.