الدكتور رمزي أبو إسماعيل
أثارت حادثة البترون الأخيرة، موجة من ردود الفعل المتضاربة بين من يرى في الحادثة دليلًا على حاجة لبنان لوجود "حزب الله" كقوة دفاعية، ومن يعتقد أن وجوده يعرّض الدولة للخطر ويفاقم عزلتها.
هذا الجدل ليس بجديد، تماماً كما هو حال هذا الصراع القائم، والذي يتشابه وكل الصراعات التي عصفت بلبنان منذ تأسيسه. فالمشكلة ليست في "حزب الله" وحسب، بل في نزاعٍ أعمق وأطول، نزاع لم يتغيّر منذ تأسيس لبنان حتى لو تبدّل اللاعبون والأدوار على مرّ العقود.
وإذا تأملنا بتاريخ لبنان، نجد أن الانقسام حول الهوية الوطنية كان حاضراً منذ نشأته. فقد تنوّعت الأيديولوجيات، ولكن ظل النزاع محورياً حول معنى لبنان.
انطلاقاً من هنا، تبقى المشكلة الأساسية ثابتة: نحن نختلف حول رسالة لبنان ومعناه، هل هو كيان مستقل ذو خصوصية؟ أم هو جزءٌ من مشروعٍ أوسع؟ وكأنه كُتِب للبنان أن يكون مسرحاً لتصادم الرسائل، حيث يتضمّن كل فصل "لبنانين" في حالة صراع دائم، كلٌّ منهما يتبنى رؤية مختلفة عمّا يجب أن يكون عليه هذا الوطن.
فصولٌ متعددة والخلاف واحد
لتأطير هذا النزاع، نجد في كتاب الدكتور كمال صليبي المحوري "بيت بمنازل كثيرة" وصفاً دقيقاً لهذا التعدد والتناقض الذي يغذّي الصراع. بالنسبة للبعض، لبنان هو رسالةٌ للعالم في التنوع والانفتاح على الآخر، أما بالنسبة للبعض الآخر، لبنان هو جبهة مقاومة أو قاعدة لأيديولوجيات أوسع تتّخذ من لبنان موقعاً لنضالها. هذا التنافر في الرؤية لم يكن يوماً وليد أزمة موقتة، بل هو خلاف حول جوهر البلاد: ماذا يعني لبنان وما هو دوره في هذا العالم؟
كل محاولة للوصول إلى صيغة تضمن الاستقرار تصطدم بجذور هذا الخلاف الجوهري. فحتى اتفاق الطائف، الذي أعاد تنظيم النظام السياسي، لم يتمكن من معالجة هذا الانقسام العمودي حول هوية لبنان ورسالته، بل نجد أن التوترات تتجدد في كل عقدٍ من الزمن، مع تغيّر الظروف وتبدّل الأدوار.
كيف ننطلق من هنا؟
إن هذا المقال لا يهدف بالضرورة إلى تقديم حلول جاهزة، بقدر ما يسعى إلى فهم جذور المشكلة بوضوح. كما أن كلماته لا تعني أنني أبشر بمستقبل أسود، بقدر ما أنا أحاول التشديد على أهمية تطوير مبادرات سياسية علمية وعملية تأخذ في الاعتبار حجم اختلافاتنا. من هذا المنطلق، تتمثل الخطوة الأولى في فهم هذا الواقع بشكلٍ شامل ودقيق من أجل البحث عن حلول. فإن لم نواجه هذه الحقائق الأساسية ونفتح حواراً حقيقياً حول هوية لبنان ورسالته، فسنبقى عالقين في دائرة من الصراعات المتكررة، حيث تبقى الأسئلة الأساسية حول رسالة لبنان معلّقة، بلا إجابة شافية.
لبنان الرسالة؟ ربما إن ثابرنا في مسارنا هذا، هو رسالتان.