الدكتورة زهيدة درويش جبور
في كلّ مرة أزور المملكة العربية السعودية تترسخ قناعتي بأنّ الشعوب تسير قدماً إلى الأمام إن توفّرت لها دولة قوية لديها رؤيا لتنمية الفرد والمجتمع، وبأنّ شرط التقدّم ليس بالضرورة الديموقراطية، بل أحياناً تحتاج الشعوب إلى من يمسك بمصيرها ويأخذ بيدها لتتجه نحو المستقبل.
ثلاث محطات سمحت لي بهذا الاستنتاج: المحطة الأولى زيارة ليومين لمحافظة العلا، هذه المنطقة المدهشة بطبيعتها الجغرافية حيث الصخور الشامخة منحوتات طبيعية في محيط شاسع من الرمال الصحراوية، وتحت سماء تتألق نجومها ليلاً وتسطع شمسها نهاراً لتلون بأشعتها الحجارة فتختلف ألوانها مع اختلاف الأوقات، من الرمادي إلى البني فالبرتقالي، فلا يسعك أمامها إلّا أن تقف مبهوراً لتسبّح الخالق الذي ابتدع كلّ هذا الجمال.
وفي العلا عِبَر التاريخ تقرأها منقوشة على صخور جبل عكمة، هذه المكتبة الطبيعية التي أُدرجت على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، ويعود تاريخها الى آلاف السنين لتشهد لقدم الحضارة في هذا البلد، ولتدرك أن هاجس البشر مذ وُجدوا هو أن يتركوا أثراً لهم يخبر عنهم. واللافت اهتمام الدولة بالتنقيب عن الآثار، ليس فقط في محافظة العلا بل في كلّ المملكة، برهاناً على أنّ تاريخ هذه البلاد راسخ في القدم. هناك أسّسَ الأنباط دولتهم وسط الجبال التي تذود عنها كحصن منيع، بنوا مقابرهم في الصخور منازل لموتى سوف يبعثون، ثمّ ابتنوا مثلها في البتراء، في الأردن اليوم. وفي العلا واحات كانت تتغذّى في الماضي القديم من 300 عين، قبل أن تنضب تدريجياً نتيجة اتساع المساحات المزروعة بالنخيل وازدهار تجارة التمور. البيوت في الواحة طينية، وكان بعضها مسكوناً حتى ثمانينات القرن الماضي حيث يلجأ إليها أهل البادية هرباً من القيظ في عزّ الصيف، كونها مبنية من مواد طبيعية تحمي من حرارة الشمس.
الأدلاء السياحيون كلهم من المنطقة، هم ليسوا من متخرجي الجامعات ولكنهم خضعوا لدورات تدريبية تؤهلهم للقيام بوظيفتهم على أكمل وجه. يكفي أن تتكلم إليهم لتدرك مدى اعتزازهم بهويتهم "البدوية" ومدى أصالتهم، وفي الوقت نفسه مدى انفتاحهم على الآخر المختلف.
المحطة الثانية هي حفل عرض الأزياء الذي قدمه المبدع اللبناني إيلي صعب والذي يفوق الخيال، إذ جسّد الجمال بكلّ تجلياته، فاجتمعت فيه نخبة من العارضات تمّ انتقاؤهنّ من بلدان مختلفة وفق معيار صارم فجاء جمالهن متناغماً مع الأثواب المطرزة والمشغولة بحرفية فائقة، فاستحقت أن تُعتبر تحفاً فنية في كلّ معنى الكلمة، وكوكبة من أهم نجوم العالم الغربي والعربي الذين أثروا الحفل بعروض فنية رائعة يتناغم فيها الغناء والرقص ولعبة الألوان والأضواء والمشاهد التي تنعكس على شاشة تشكل خلفية المشهد، دليلاً على الاتقان في استخدام التكنولوجيا ومصالحتها مع الفن. وإذا وضعنا هذا الحفل في إطار السياق الاجتماعي، أمكننا الاستنتاج أن الغاية منه هي إبراز صورة جديدة عن المملكة تنزع عنها صفة التشدّد التي لطالما ألصقت بها.
المحطة الثالثة هي الحفل الرائع الذي أحياه غي مانوكيان وفرقته في مسرح قصر الثقافة والذي تمّ بمبادرة من إمارة الرياض، في حي السفارات، وكان حضوره مجانياً وحجز المقاعد فيه يتم عبر الإنترنت. تفاجئك حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة قبل أن تدخل إلى المسرح الذي يتسع لنحو 1500 مشاهد، أكثرهم من اللبنانيين إضافة إلى المواطنين، وبعض الجاليات الأجنبية، والذين عاشوا هذا الشاب الفنان المبدع، سهرةً زاخرة بالفن والموسيقى والحماسة، تشهد للموسيقى العربية ورقيها، كما تشهد لإخلاص مانوكيان لفنه ولجمهوره.
وعندما سألت عن مجانية الحفل كان الجواب إنّ ذلك يدخل ضمن سياسة تحسين جودة الحياة للمقيمين والوافدين.
طبعاً لم أتمالك نفسي من المقارنة بين حالنا في لبنان، حيث المواطن مقهور، مسروق، مهدد بالموت والخراب، يدفع ثمن حرب لم يخترها وسياسات فُرضت عليه، وحاضر المملكة حيث تنتهج الدولة سياسة تنموية على الصعد كافة. لكنّي في الوقت نفسه كنت شديدة الاعتزاز بالمبدعين اللبنانيين الذين لا يزالون يؤكدون أنّ هوية لبنان الحقيقية هي في عطاء بنيه الثقافي الذي لن تقوى عليه المحن والشدائد.