زاهي جبرائيل
بعد أن رسَّخ القديس بولس، عدو اليهود الأول، مفاهيم المسيحية، صارت الرؤية للمسيحيين الأوائل، أنّ لليهود فقط دعوة للإيمان بيسوع المسيح. ظلت المسيحية واليهودية بصراع، إلى مجزرة هتلر في ّحق اليهود، التي نمَت عطف الكنائس المسيحية الغربية على اليهود. أمّا الدولة اليهودية فبدايتها مع داود وانتهت حينها سريعاً بانقسامها، وما عاد من وجود لدولة يهودية لحين بزوغ دولة إسرائيل الجديدة. أول من أطلق فكرتها هو نبوليون دون تحديد موقعها. أمّا الصهيونية التي تقوم على استيطان اليهود لأرض فلسطين فبداية ترسخها ككيان قومي علماني مع مؤتمر بازل 1896 وتيودور هرتزل. في المقابل أول من انبرى إلى مقاومة الصهيونية كانوا المسيحيين اللبنانيين بأكثريتهم المارونية.
بعد 1948 كثيرٌ من المفكرين اللبنانيين المسيحيين رأوا أن يقبل الفلسطينيون بخريطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة في حينه خوفاً من أن نصل لاحقاً للقبول بما هو أسوأ بكثير ممّا كانت تعطيهم تلك الخريطة، وقد وصلنا لهذا الأسوأ. هذا هو العقل العربي القاصر يريد كلّ النصر ويعيش في الخسارة ويرضى أخيراً بالقليل الذي يُعرض عليه وهو يرفع راية النصر.
تعرف إسرائيل جيداً أنه مهما بلغت معاهدات التطبيع مع العرب سيبقى شعبها يعيش وكأنه من جزيرة، من كوكب آخر. لذلك هي تعمل لتطبيع العرب أكثر من التطبيع معهم. إسرائيل تنظر لنفسها أنها الأعظم في محيطها وتعتقد أنها تستطيع أن تكون صاحبة القدوة للعرب في كل أمورهم. أما المسيحيون في بلادنا فبتعدد ثقافاتهم وتمدّد جذورهم وانتشارهم الأممي يعرفون أن اليهود ليسوا موهوبين أكثر منهم. كما وأن المسيحي اللبناني في باطن عقله لا يستطيع أن يغفر لإسرائيل تهجير الفلسطينيين إلى أرضه. تهجير هزَّ ركائز لبنانه الكبير. إسرائيل ما يحرق كبدها ويقضّ مضجعها أنّ لبنان الكبير الذي صنعه المسيحيون له الجاذب والشعور المميز من كلّ العرب، فالعرب بمجملهم مهما تغيرت الظروف يظلون مسحورين بلبنان الكبير ومسيحيّيه ويعشقون ثقافة اللبناني ولباقاته ولياقات عيشه وينبهرون بتمدّنه. إسرائيل تريد نسف هذا العشق كما وتريد تشويش الرؤية الراسخة لدى المجتمع الغربي وعلى رأسه أميركا أن للبنان الكبير الخصائص ليكون مركزاً لإدارة المصالح في كلّ الشرق الأوسط، متى تأمّن الاستقرار الداخلي في هذا البلد ومؤسسات لا ينخرها الفساد وقضاء مرِن.
منذ 1948، في قلب إسرائيل مرارة اسمها لبنان الكبير والثقافة المسيحية فيه. التغيرات الانعطافية التي حدثت حينها في فلسطين جعلت الشركات النفطية العملاقة تختار لبنان بدل فلسطين، وما رأت مصلحتها في إسرائيل الدموية الجسم الغريب الذي ولد غصباً في المنطقة. مذذاك التاريخ ودولة صهيون تخطّط لمحو لبنان الكبير عن الخريطة وتهجير مسيحيّيه.
إن البيئة العقلية اليهودية تجد نفسها أقرب إلى العقلية الإسلامية الشريعيّة منها إلى المسيحية. في 1948 بدأت محاولاتها فكبلتها السياسة اللبنانية باتفاقية هدنة بنودها كلها سيادة وفخر للعقل السياسي اللبناني في ذلك الحين.
ما نامت إسرائيل على الضيم. ظلت تحفر للبنان الكبير وللمسيحيين فيه إلى أن استطاعت استدراجه لتوقيع اتفاق القاهرة. إتفاق نسف اتفاقية الهدنة. وقّعه حينها كل النواب ما عدى العميد ريمون إده ونواب كتلته، وقد مات في منفاه الفرنسي وفي قلبه مرارة على لبنان.
إسرائيل استطاعت جرَ لبنان الكبير إلى حرب عبثية بدأت بين لبنانيين وفلسطينيين وامتدت لتصير حرباً أهلية بين اللبنانيين، دمّرت لبنان الكبير، وخسر لبنان الكبير الكثير من مسيحييه وهم خسروه. بعد اتفاق الطائف تشرعنت الحرب الأهلية، وإسرائيل في قلب الدائرة ترى وتخطط وتعمل وتحارب إلى أن رست هدنة باتفاقات 2006. نمنا على أمجاد اتفاقيات 2006 الصورية وإسرائيل تراقب وتدرس وتحصي تدفّق السلاح إلى لبنان وتلقم حاسوبها بخرائط التحصينات والأنفاق، وحكماء لبنان ندروا.
صار لبنان جيشاً شرعياً ضعيفاً ومقاومة مسلحة مدجّجة بالسلاح تشرعنت بألاعيب الكلام. وإسرائيل عينها ساهرة وتخطط وتتحضر لساعة الصفر. وجاء طوفان الأقصى بساعة الصفر، وبدأت المعركة المفتوحة. الهدف فيها لبنان الكبير أكثر منه غزة. غزة شؤونها محصورة. وللبنان الكبير دور استراتيجي كبير.
أرادت إسرائيل حرب لبنان الكبير مع مقاومة مسلحة، فلو كانت مع جيش لبناني، مهما كان سلاحه محدوداً، ما كانت تمكنت إسرائيل من التصرّف في المعركة هكذا، فلبنان دولة في الأمم المتحدة، والأمم المتحدة لا تعترف بشيء اسمه المقاومة. إسرائيل في المعركة الآن، خطرها ليس فقط بالقتل والتدمير والتهجير. خطرها الكبير في قتل العنفوان اللبناني. تأمر اللبنانيين أن يتركوا بيوتهم فينفذون مطأطئي الرؤوس هائمين على وجوههم. تمحي بيوتهم من الوجود وتنسف معها القيمة المعنوية لبيوت عمرها مئات السنين. هكذا بمسيَرة الذلّ تنتهي هذه البيوت بلحظة؟ هي أقسى أنواع المرارة التي يعيشها اللبناني الآن. إسرائيل تدعو مقاتلي "حزب الله" إلى أن يتراجعوا إلى ما بعد الليطاني وربما إلى شمال الأولي. هل نستطيع تصوّر هول الكارثة من هكذا حلّ؟ مجرد أن ينتقل مقاتلو "حزب الله" ولو بمسدساتهم فقط وثقافة القتال التي تربوا عليها إلى داخل البلاد، سيهجر البلد ربما أكثر من ربع أهله وغالبيتهم من شبابه المسيحيّ، وستعمّ الفوضى نظامه السياسي وترتاح إسرائيل نهائياً من كابوس اسمه لبنان كبير يتفجر عنقودياً.
تجاه هول هذا المخطط هل نقف مغلولي اليدين؟ أين الفاتيكان من هذا؟ لماذا لا يدعو للقاء روحي على أرضه يخرج بأعمال؟ الصلاة وحدها والتمنيات الطيبة ما عادت تنفع. البطريرك الحويك أب لبنان الكبير وحين كان لا زال كاهناً أتته سيدة تسأله أن يصلي لها على زجاجة مياه لترش المياه المقدسة في أرجاء بيتها لتطرد الفئران. وبالفعل قام بذلك وهي السيدة تغادر ناداها وقال لها: يا أم فلان رشي هذه المياه المقدسة لكن لا تنسي أن تجلبي هرّاً إلى بيتك. البطريرك الحويك عظيم لبنان الكبير، بمنطقه الحكيم هذا، صنع وطناً صار درّة الأوطان ولو قُدِّر له أن يكون موجوداً هنا الآن لكان أقام الصلوات وصنع "هرّاً" أكل كلّ الفئران الإسرائيلية في بيتنا. لتتخلى الفاتيكان قليلاً عن عطفها على إسرائيل، فالأمور تغيّرت وهتلر مات منذ زمن، وعاد وبُعث حيّاً في مجازر اليوم والمذبحة تدور على أعناق أبناء لبنان الكبير وتهجير المسيحيين منه.