الدكتور رمزي أبو إسماعيل
على مرّ التاريخ، شهد العالم تحولات جذرية أعادت رسم خرائط الدول وحدودها. قرأنا عن دول تشكّلت وأخرى تفتّتت، عن ألمانيا التي انقسمت ثم توحدت، وكوريا التي انفصلت إلى شمال وجنوب، ودول في أوروبا الشرقية توحدت ثم عادت لتتفكك. غالبًا ما تبدو هذه الأحداث بالنسبة إلينا وكأنها مجرد سرديات تاريخية لا تمتّ لحاضرنا بصلة. لكن الحقيقة هي أن هذه التحولات لم تكن يوماً بعيدة عن الواقع الذي نعيشه، ولا يوجد سبب يجعل لبنان استثناءً.
لبنان اليوم يعيش أزمة وجودية في ظلّ صراعات داخلية تزداد حدّتها، وتأثيرات إقليمية تسهم في تأجيج الاستقطاب. ما يزيد من تعقيد هذا المشهد هو غياب رؤية مشتركة لمصير لبنان بين مكوّناته المختلفة. الطموحات المتباينة، والولاءات الخارجية لبعض الأطراف والتي يرفض بعضها نهائية لبنان، والافتقار إلى إحساس ومفهوم مشترك للوطنية، كل ذلك يجعل من مستقبل لبنان مفتوحاً على كل الاحتمالات.
الحرب الحالية كشفت هشاشة "العيش المشترك"، وأعادت إلى السطح خلافاتنا العميقة والواقع المؤلم بأننا لا نرى لبنان بنفس الطريقة. هذه الانقسامات تغذّي سرديات متضاربة حول الوطن ومعناه، وتُضعف قدرتنا على بناء مصير مشترك. إذا استمرت الأمور على هذا النحو، سيصبح لبنان أكثر عرضة لتحولات جذرية قد تعيد رسم حدوده وتحوّله إلى كيانات متفرقة تخدم مصالح القوى الإقليمية والدولية.
لكن التحولات ليست حتمية. ما زال بإمكاننا التعلّم من التاريخ والعمل على تفادي مصير مشابه. الحل يبدأ بإيجاد قيم مشتركة تُبنى عليها رؤية وطنية جامعة. يجب أن يعترف الجميع بأن لا طرف يمكنه فرض إرادته على الآخرين، وأن الاتفاق على مفاهيم المصلحة الوطنية هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل للبنان. المطلوب حوار وطني شجاع، يواجه الحقائق كما هي، ويهدف إلى التوافق على مصير مشترك يتجاوز الانقسامات الطائفية ويراعي طموحات كل اللبنانيين.
لبنان الذي نعرفه اليوم قد لا يكون كما هو غداً. الخيار أمامنا واضح: إما أن نأخذ زمام المبادرة ونرسم مصيرنا بأيدينا، أو نترك الظروف والقوى الخارجية تحدد لنا كيف سيكون لبنان الغد. عدم اتخاذ القرار هو بحد ذاته قرار، قرار يخدم انقسامنا وتحوّلنا إلى دول متناحرة بدل أن نكون وطناً واحداً لأبنائه.