مارون الياس مرهج
مع بدايات الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، والتي كان للأميركي والإسرائيلي الدور الأكبر في تخطيطها وتأجيجها، ذهب موفد أميركي إلى البطريرك الماروني ليُعْلمه بأنه يجب على المسيحيين أن يتركوا أرض أجدادهم ويرحلوا إلى العالم الغربي المتحضر حيث سيكون كل شيء مؤمّناً لهم لكي يعيشوا بأمان. رفض البطريرك الصلب هذا الاقتراح كما بقية اللبنانيين.
وبعد ثلاثين عاماً، وإثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه وبعض المواطنين في تفجير مخابراتي إجرامي منظّم، ذهب السفير الأميركي في لبنان إلى البطريرك الماروني وقال له: "الآن سوف ترى أننا صادقون معكم".
بعد نيل لبنان استقلاله عام 1943 عن الانتداب الفرنسي، جاءت معاهدة الهدنة مع إسرائيل عام 1949، فكانت أول معاهدة تؤكّد التزام لبنان بمبدأ الحياد. وبغض النظر عن المكاسب السياسية التي حصلت عليها إسرائيل، إلا أن لبنان كان الرابح الأوّل.
مرّت بضع سنوات، وتحت الضغط الإنكليزي - الأميركي أجُبِر لبنان على الدخول في "حلف بغداد" سنة 1955. وبغض النظر عن الأسباب، كان ذلك أوّل نقض لسياسة الحياد التي التزم بها لبنان. ثار اللبنانيون على زجّ بلدهم في هذا الاتفاق الخارجي وأجبروا حكامهم على الخروج منه.
ومن بعده، جاء عام 1969 بمعاهدته المشؤومة، "اتفاقية القاهرة"، والتي أتت أيضاً تحت الضغط الخارجي السياسي والمخابراتي المتستّر. انتفض اللبنانيون مرة أخرى ضدّ هذه الاتفاقية التي سلبت البلد وسيادته. وفي هذه المرة أدّت انتفاضتهم إلى حرب أهلية، تماماً كما خططت لها المخابرات الأجنبية الإنكليزية - الأميركية - الإسرائيلية. سالت دماء اللبنانيين، إلى أن أتى اتفاق 17 أيار (مايو) 1983، فعاد اللبنانيون وقاوموه حتى سقط.
ورغم كلّ الألاعيب الدولية، والتي كانت وراء تلك المعاهدات، والتي كانت توهمنا بأن هذه الاتفاقات هي لمصلحة بلدنا، وأن الفريق الآخر الذي لا يقبل بها هو عدوّ لنا في الوطن، لكننا مع الوقت تبيّن لنا جميعاً بأن هذه الاتفاقات كانت ضدّ وطننا ومصالح شعبنا كلّه. والأهم، أننا أدركنا اليوم تماماً، أنه، يساريّين كنا حينها أم يمينيّين، كنا من دون أن نعرف، متمترسون في جبهة واحدة، هي جبهة وطننا ومصلحته، نقاوم هذه الاتفاقات السلبية من أي جهة أتت ولو من خنادق عدة مختلفة.
ولأن لبنان "حبيب الجميع"، كما قال عنه مرة الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والذي في حياته وفي دوره كرئيس للوزراء، عرف كيف يُجيّر دعم الدول وعطفها على لبنان، فقاد بحنكة عالية الدبلوماسية اللبنانية، حتى وصلنا إلى نقطة الفصل في دحر العدو الصهيوني عام 2000. طبعاً أنا لا أنسى خشوعي أمام كل أم شهيد لبناني وغير لبناني، حزبي وغير حزبي، سقط في مقاومة العدوّ، وتمجيدي للشعب اللبناني الذي تكاتف يومها لمحاربة الاحتلال.
وبعد اغتياله عام 2005، مشيَنا بجنازته حتى وصلنا إلى تحرير أرضنا من أخينا السوري الذي احتلّ بيتنا لمدة ثلاثين عاماً (بغطاء أميركي)، وطبعاً تمّ ذلك التحرير بدعم عربي ودولي، خاصة من الولايات المتحدة الأميركية. واليوم تقف أميركا معنا أيضاً من أجل تحريرنا من الاحتلال الإيراني.
نعم يا أخي في وطني، لسنا نحن الذين تبدّلنا وأصبحنا عملاء لأميركا، بل هي التي تغيّرت، وتخلّت عن مخطط هنري كيسينجر الصهيوني، الحاقد والخائف من الأمة ومن العقيدة اللبنانية، والذي قالها بكل صراحة ووقاحة: "لبنان غلطة". لذا هو حاول بكل جهد أن ينفّذ مخططاته التي وضعها في ستّينيات القرن الماضي، والمتمثلة بتفريغ لبنان من المسيحيين ومن كل المثقفين، وإدخال الجماعات المتبقية في حروب طائفية، وإيصال حدود إسرائيل إلى نهر الأوّلي، مع ضمّ القسم الباقي منه إلى سوريا.
طبعاً رغم علْمه وعلومه وجبروت دولته، فقد غابت عنه أشياء، لأنه لم يكن يعلم بأن لبنان ليس "غلطة"، بل لبنان حقّ منزل من السماء لجميع أبنائه، والحقّ لا تقوى عليه أبواب الجحيم.
لقد اختار الأميركي اليوم أن يكون له قاعدة ديلوماسية - اقتصادية - تجارية كبيرة في لبنان، يكون لها نفوذ كبير في الشرق الأوسط الغني بالمواد الأولية، خاصة النفط والغاز... ولهذا السبب يجب على لبنان أن يتمتّع بالأمن والهدوء والازدهار الاقتصادي. وهذا يتناسب مع طموحات غالبية اللبنانيين. إن الأميركي ماضٍ في مشروعه. ولا يملك بعد نظرٍ في السياسة أي مسؤول لبناني ينتقي القرارات الدولية، فيقول: إننا سننفّذ هذا القرار أو قسما منه، أما ذلك القرار فقد "أصبح وراء ظهرنا". إن القرارات الدولية بما يختص لبنان، ستنفّذ كلها دون استثناء، خاصة أنها لا تتناقض مع الدستور .
إن السياسة يا صاحبي لا تعرف المبادئ بل المصالح. والرئيس الذكي هو الذي يعرف كيف يجيّر مصالح الدول لمصلحة بلده وازدهار شعبه لا العكس. لذا، هل سيستطيع القسم الأهم من المسؤولين الفاسدين في لبنان، والذين نهبوا أموال الشعب لعقود، الهروب بأموالهم وممتلكاتهم، وإلى أين حين تتغير المعادلات الدولية، ويبدأ عهد الفضائح؟
أنا لا أفصل مساري عن المسار السياسي-الدبلوماسي الفلسطيني كما تريد إسرائيل، ولا أطعن القضية الفلسطينية العادلة في ظهرها. وأيضاً لا أربط مساري بالمسارات العسكرية والأهداف الأيديولوجية لـ"حماس" ولـ"حزب الله" ومن خلفهم إيران، كي لا يأتي يوم يطعنونني هم في ظهري.
أنا سأظلّ أمشي ثابتاً بالسياسة التي تناسب وطني وشعبي. وسأرفع دائماً شعاري "لا شرق ولا غرب". وآن الأوان لكي نتعلّم من التاريخ بأنّ تحالفات لبنان الدولية مع فئة ضد فئة، كانت تنهار بسرعة، ولم تأت لبلدنا إلا بالويلات.