النهار

شوقي أبي شقرا شاعر الحداثة... والسوريالية "
نبيل مملوك
المصدر: بيروت- النهار العربي
رحل الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا صباح أمس الخميس عن عمر ناهز 89 عاماً
شوقي أبي شقرا شاعر الحداثة... والسوريالية "
الراحل شوقي أبي شقرا.
A+   A-

رحل الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا صباح أمس الخميس عن عمر ناهز 89 عاماً، بعدما رسم تجربة تأسيسيّة مغايرة في عالم الشعر عموماً وفي قصيدة النّثر خصوصاً، هو الذي منح قصيدة النّثر بعداً لاواعياً محضاً ومباشراً، محاكياً تجارب سرياليّة عديدة أثبتت نفسها في أوروبا خلال القرن الماضي، من أبرزها تجربة الشعراء الفرنسيّين آلان بوسكيه، بول إيلوار، ورمزيّة ستيفان مالارمية. 


وكان شوقي أبي شقرا قد أدلى في حواره الأخير عبر إحدى الصحف اللبنانيّة، أنه يحاول التشبّث بالحياة وتخليد تجربته عبر منطق الأحاديّة. فكيف رسم الشاعر الريفيّ تجربته اللاواعية؟ وإلى أيّ حدّ صمد فكره بوجه الموت.



التجربة والعلاقة مع المتلقّي 
بشكل مباشر وواضح يمكننا التطرّق إلى تجربة أبي شقرا من خلال نظريّة التلقّي ونوع القارئ الذي يستهدفه، فالشاعر الذي ساهم في تأسيس مجلّة "شعر " في خمسينات القرن الماضي، وضع حول تجربته إطاراً من خشب الريف وحطبه، ليكون الريف حاضراً كرمز في معظم نصوصه: "أين أغصان الطيور، رؤوس...الوعول، غيمات القديسين؟ أنزل الضابط كتف الجرّة"... 
هكذا نلاحظ أنّ الشاعر جمع كلّ المكونات الممكن تواجدها في بقعة جغرافيّة ريفيّة من دون أن تكون على تلازمٍ وتلاقٍ. فالقدّيسون لا يرتبطون بالأغصان، والغيم لا يرتبط بالجرّة. 


هذا التركيب للجزيئات التي تكوّن بيئة معيّنة يُعدّ محاولة للتحايل على الوعي ورفع نبرة اللاوعي في الشعر، ما يضعنا أمام تجربة تكسر نمطيّة الصورة والبلاغة والدهشة. وهي تجربة خاصة تأتي مقابل صوت يحاول أن يفكّر بما يمكن أن يراه الفرد العادي "أضغاث أحلام "أو أحلاماً متقطّعة. 


وبصرف النّظر عن التلاحم الذي تحدّث عنه فرويد ما بين الحلم والنيّة الحقيقيّة للفرد، وما بين الحلم والسلوك، إلّا أنّ أبي شقرا سلك أيضاً درب أقرانه وأسلافه من أتباع رموز تجعله يعثر أو يتعثّر بهويّته الشخصيّة: "الخادمة المقروصة الملذوعة في مجمّرة العشاق، تُفلت القهوة والطلب في حضن الضيوف، تكنس المرفأ تلد صبياناً في الأصداف، من حرارتها ينفتح البرَّاد، تصطف الأشياء، ترتجف السمكة المجلّدة تنتفخ البيضات".


السمكة والمرأة (الخادمة) ارتبطتا لفظاً بلفظتين وردتا بصيغة الجمع تباعاً: "مجمّرة العشّاق، البيضات"، وهنا إشارة إلى ما يحاول الشاعر تجنّبه، أي فخّ الأنا والتجربة الشخصيّة للانطاق نحو العام، أو التصوير المطلق للمشهد الانسانيّ والحيوي.


عوامل تضع المتلقّي أمام حيرة، فإما أن يكون دلاليّاً يقرأ القصيدة من منظوره الذاتيّ، أو ناقداً يحاول بصعوبة تفكيك رؤية الشاعر ورؤيته الخاصّة ورؤية الآخر الذي يسعى إلى التعرف على لاوعي الشاعر.


إنها إذن تجربة لاواعية تقوم على استنزاف الأدوات التحليليّة لكي يخرج القارئ باللاخلاصة، ويبقى على حافّة الكتابة المضادّة أو التعقيبيّة أو القراءة في عوالم شعراء يشبهون شوقي أبي شقرا.


حواريّة سريعة لرجل لامس القرن
في حواره الأخير مع إحدى المواقع الالكترونيّة اللبنانيّة، سعى شوقي أبي شقرا إلى تأكيد أمرين: الأوّل تمسّكه بالريف "ما زلت قروياً وكنت قبل قليل أسمع صوت الذئب من بعيد. لم أخرج من هذا الإطار ومن هذه المساحة الصغيرة التي أحبّها. ومن الصابون والماء وتلك ساعتي كانت هكذا وكان الوقت غروباً والساعة ساعة سجود. مرّ الذئب ولم يلمحني. لكنه مضى ولا هدير سواي". 


وثانياً، استخدام المنطق الأحادي القائل بتأسيس قصيدة النثر في لبنان: "كنت أول من كتب قصيدة النثر وأول من أطلق المصطلح. في 28 نيسان 1959 نشرت أربع قصائد في جريدة "النهار" تحت عنوان "ربّ البيت الصغير"...
"تخطّى أبي شقرا في حديثه عن كتابته لقصيدة النّثر مانيفستو الشاعر أنسي الحاج الذي كتبه كمقدّمة في مجموعته "لن" (دار الجديد، 1960) ليضعنا أمام نقاش: هل أبي شقرا الذي تعرّف في أواخر خمسينات القرن الماضي إلى شعر آرثر رامبو ونقله إلى العربيّة، هو من لمس مصطلح قصيدة النثر وترك مساحة التنظير له للشاعر أنسي الحاج؟ أم حاول تصويب المسار وحصر المصطلح ككل بتجربته الشخصيّة والشعريّة؟. 
هنا جواب عن هذا السؤال: "في ربيع 1960 كرّست مجلة "شعر" العديد من اجتماعاتها لقصيدة النثر، وبحسب اماتاييس فإن شوقي أبي شقرا أول من نشر محاولة وصفها بقصيدة النثر. وإن أدونيس أول من كتب دراسة عن قصيدة النثر. وأنسي الحاج أول من نشر مجموعة شعرية "لن" مع مقدمة في هذا اللون الأدبي الجديد في كانون الأول 1960" ( من حوار شوقي أبي شقرا الأخير في 18 آب/أغسطس 2024).

 

تلخّص تجربة شوقي أبي شقرا الغرائبيّة والسورياليّة- الرمزيّة بتجنّب للأنا وخطابها الانفعالي المباشر، فضلاً عن محاولة أن يكون أوّل المكتشفين والمستكشفين، فرغم تعمّقه في هدوء الرّيف ومحيطه خصوصًا في أيّامه الأخيرة، إلّا أنّ مؤلّف كتب "أكياس الفقراء (1959)، سنجاب يقع من البرج (1971)، صلاة الاشتياق على سرير الوحدة (1993 )، أنت والأنملة تداعبان خصورهنّ (2023 )" كان ثائراً على كلّ من اعتبره ساكناً وصامداً وحاول التكلّم بفصاحة البقاء وخلود التجربة، ليطمئن قرّاءه أن شعره المختلف هنا...إلى الأبد على الأرجح.

اقرأ في النهار Premium