سنة 1973 انتهى العمل في بناء متحف الرسام الهولندي العالَمي فان غوخ (1853-1890)، وجاء تحفة معمارية جميلة من حيث شكل البناء، في "ساحة المتاحف" جنوبي أَمستردام. وبانتهاء حملة تجميع لوحاته من المتاحف العامة والمجموعات الخاصة، فتح "متحف فان غوخ" أَبوابه للزوار والسياح سنة 1974.
احتفاءً بخمسينية المتحف (1974-2024)، أَكتب هذه الرباعية عن أَبرز أَعمال فان غوخ في متحفه.
في الجزء الأَول سردتُ قصة المتحف وتجميع اللوحات، مع لمحةٍ عن اثنتَين من لوحات فان غوخ.
في هذا الجزء الثاني لمحةٌ عن أَربع لوحات أُخرى في متحف فان غوخ.
3. في مقهى آغوستينا
رسمَها فان غوخ سنة 1887 عن صاحبة المقهى السيدة آغوستينا سيغاتوري (1841-1910)، وكان شريكَها فترةً من بضع سنوات. وهو رسمها جالسة إِلى الطاولة، حاملةً سيكارة، أَمامها كوب من البيرة، وخلْفها رسومٌ يابانية تدلُّ على اهتمام الرسام بهذا النوع من الفن. وفي ملامح آغوستينا حزن وكآبة إِضافة إِلى جو المقهى الكئيب، ما يدل على صعوبةٍ معيشية أَو ضائقةٍ مالية تمر بها.
هذا المقهى كان ملتقى عدد من الفنانين، بينهم الرسامان هنري دو تولوز لوتريك (1864-1901) وبول غوغان (1848-1903). وكان فان غوخ علَّق في هذا المقهى بعضَ لوحاته ذات أُسلوب ياباني كان يعتمده فترتئذٍ، وذات أَلوان متعددة أَو متعاكسة (أَحمر-أَخضر، أَو أَصفر-بنفسجي). وفي هذه اللوحة ما يدل أَيضًا على حضور النساء في إِدارة المقاهي الباريسية أَو في الحياة الباريسية الليلية. فبعدما كنَّ يُصوَّرنَ مجرَّدَ نادلات أَو خادمات أَو لتلميحاتٍ ذكورية جنسية، بِتْنَ يُصَوَّرن رائدات يزُرن بشكل طبيعي تلك الأَماكن مع الرجال أَو البوهيميين أَو المجاميع.
تعمَّد فان غوخ رسم آغوستينا بملامح وجه غير متناسقة، كأَن فيه إِشاراتِ مرض أَو شلل. وإِذ لم يكن لها فترتئذٍ من علامات مرض، قد يكون الرسام تعمَّد ذلك لإِثارة العاطفة حيال آغوستينا، فخفَّف أَلوانًا تعكس الواقع، وزاد من التي توحي بالمرض والسقام، كما أَظهرَ أَيضًا براعته في إِبراز فلسفتِه التشكيلية ذاتِ الوقْع العاطفي التأْثيري العميق.
4. غرفة النوم
رسمها فان غوخ سنة 1888 (كما رسم منها ثلاث نسخ أُخرى) أَيام كان نزيل "البيت الأَصفر" في مدينة آرْلْ (جنوبي فرنسا). وهو أَثَّث الغرفة ببساطة واضحة، وعلى أَحد جدرانها لوحة له. لعلَّه أَراد أَن يوحي فيها بمناخ الهدوء والراحة عبر أَلوان زاهية مُريحة. ومع الوقت بهتَتْ أَلوانُ اللوحة، والزهريُّ الأَصليُّ فيها مال اليوم إِلى الأَزرق. وواضح أَن فان غوخ تصرف في بعض قواعد الرسم البدائية خارجًا عن تلك القواعد، كما ليقترب أكثر من الأُسلوب الياباني الذي كان متأَثِّرًا به.
إِلى ذلك، تُظهر اللوحة المدى الضيِّقَ الذي كان يعيش فيه فان غوخ داخل هذه الغرفة الصغيرة الْكانت له أَشبه بملجإٍ واقٍ في ذلك المبنى. ويبدو ذلك في بساطة خطوط اللوحة وتفاصيل رقْشاتها التي باتت أُسلُوبه الخاص. لذا استخدم أَلوانًا لا تنقُل واقع الغرفة فقط بل ليُثير العطف والعاطفة من هذا الحيِّز الضيِّق الضئيل. وتعمَّد بذلك أَن يرسم لزملائه الرسامين جوًّا بسيطًا بعيدًا عن إِطار باريس الصاخب الذين يعيشون فيه ويرسمون أَجواءَه.
5. ليلة صافية النجوم فوق نهر الرون
وضعها فان غوخ سنة 1888، راسمًا فيها فضاءَ ليلةٍ صافية من ليل مدينة آرْلْ، موشَّحًا بالأَزرق المتماوج بين الأَزرق البحري والكوبالتي الفضي متعارضًا مع البرتقالي، والكُلُّ منعكس على صفحة مياه النهر. وهذه اللوحة، على عكس أَعماله السابقة، بدا فيها هدوءٌ صافٍ هانئٌ ساكن. وهو رسمها مباشرةً في الخارج مع كل ما في هذا الخارج من بوتقة جميلة، وخصوصًا برسْمه عاشقَين متعانقَين في مقدمة أَسفل اللوحة.
أَما لوحته "الليل ذو النجوم" فوضعها سنة 1889 ليرسم فيها مناخًا من خياله غير الواقع (عكس الواقعية في لوحة "ليلة صافية فوق نهر الرون")، ليُبرز في رسْمه النجومَ والأَشجارَ جوَّه النفسي الداخلي المضطرب، متماوجًا فيها بين جمال الطبيعة والتوتر الذي ينهشه نفسيًّا، جامعًا بذلك الواقع الخارجي مع حالته النفسية.
6. السوسنات
رسمها سنة 1889، بعدما أَبَلَّ من فترةِ نقاهةٍ كان أَمضاها في مأْوى سان ريمي (جنوبي فرنسا). ويلفت، بكل غرابة، أَن تكون تلك الفترة، بالرغم من وضعه العقلي المضطرب، كانت أَغزر فترات حياته إِنتاجًا. فهو إِبَّان انحباسه القسري استلهم من حديقة المأْوى لقطاتٍ ترجمها برسْم السوسنات الجميلة فيها مستخدمًا أَلوانًا زاهية فرحة برُقشات تعبيرية واضحة وخطوط بيِّنة. وكلُّ سوسنةٍ في هذه اللوحة متفردةٌ وحدها بدقَّةٍ عالية في تكوينها من حيثُ الشكل والحركة. ومنها ظهرت براعة فان غوخ في ما بات مرحلة "ما بعد الانطباعية"، بخطوطها المتميِّزة وتَعَاكُس الأَلوان فيها بين الأَخضر والأَحمر والبنفسجي والأَصفر. وبذلك جمع في لوحة واحدة تأْثيراتِ الأُسلوب الياباني والتقاليدَ المتَّبعة في شمال أُوروبا ومطالع الحداثة، ما أَثبتَ براعتَه في الجمع بين ما لديه من رؤْية، وما في الطبيعة من واقع.
وبتشريح اللوحة تفصيلَ رسمٍ وخطوطًا، يبدو عليه تأْثير الطريقة اليابانية للرسم على الخشب. وهو لم يعتبر تلك اللوحات نهائيةً بل مجردَ دراساتٍ لاختبار قدرته على المراقبة والتقاط نبض الطبيعة البكْر كما هي. مع ذلك، اعتبرَها شقيقُه تيو لوحات نهائية وجاهزة ولائقة وجاهزة، فقام بتعليقها مع لوحات "المستقلين" في "معرض باريس 1886"، فنالت إِعجابًا كثيرًا من النقاد والزوار أَثنوا على دقة تفاصيلها وحيويتها.
الحلقة المقبلة: الجزء الثالث - 6 لوحات أُخرى