رحيل أيّ مبدع هو حدث مؤثّر وفارق في عالم الثقافة والفنون. فالغياب يترك فراغاً قد لا يسدّه أحد، في حين أنّ الغياب نفسه قد يرسّخ حضوره بشكل أقوى. فالنتاج الأدبي يبقى، بل في أحيانٍ كثيرة يزداد اهتمام الناس به لتغدو أفكاره جزءاً من النقاشات الثقافية والفكرية.
قبل أيام، رحل الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا عن عمر ناهز الـ 83 عاماً، بعد رحلة طويلة مع مرض الألزهايمر. ولأنّ صاحب "ساعي بريد نيرودا" تحوّل عبر أعماله من كاتبٍ إلى رمز، فإن خبر رحيله أعاد اسمه وعناوين رواياته إلى الواجهة، وكتب عنه رئيس تشيلي منشوراً قال فيه: "شكراً لك أيها المايسترو على الحياة التي عشتها، وعلى القصص والروايات التي كتبتها، وعلى أعمالك المسرحية، وعلى التزامك السياسي، وعلى برنامجك الثقافي التلفزيوني الذي وسّع حدود الأدب".
"الهروب والمنفى"
وُلد سكارميتا في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1940 في مدينة أنتوفاغاستا، لأبوين من أصل كرواتي، هاجرا إلى تشيلي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد أشار سكارميتا إلى حياتهما في عمله الروائي "حفل زفاف الشاعر" الصادر عام 1999.
كانت حياته الأدبية حافلة بالإنتاج. كتب العديد من الروايات والقصص القصيرة، التي تعكس تجارب الشعوب وتطلّعاتها وآمالها في الحرية والكرامة، وتحمل في طياتها قوة الكلمات وجمال السرد.
حظي سكارميتا بشعبية كبيرة في وطنه بفضل البرنامج التلفزيوني الناجح "The Book Show" .
بدأ سكارميتا مشواره الأدبي في ستينيات القرن العشرين، في فترة كانت فيها تشيلي تعيش تحولات سياسية واجتماعية عميقة. تأثر سكارميتا بهذه الأحداث، فانعكست تجارب بلده المضطرب في أعماله التي تركّز على قضايا الهوية، الحرية، والحب.
درس الفلسفة والآداب في جامعة تشيلي قبل أن يكمل دراسته في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، مما ساهم في تعميق رؤيته الثقافية وتوسيع آفاقه الفكرية.
اختار سكارميتا المنفى واستقرّ في ألمانيا، حيث عمل أستاذاً ومحاضراً في الأدب. لم يوقف المنفى إنتاجه الأدبي بل كان دافعاً له لكتابة أكثر أعماله شهرة، والتي تعبّر عن حنينه إلى وطنه وقلقه على مستقبلها السياسي في عام 1973، عقب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه ضد حكومة سلفادور أليندي المنتخبة ديمقراطياً.
الصبر المُتّقد
لا شكّ في أنّ أولى روايات سكارميتا تبقى هي أشهر رواياته "ساعي بريد نيرودا" (El cartero de Neruda). نشرت للمرة الأولى بعنوانها الأصلي "الصبر الحارق أو المُتقد" في عام 1985. تدور الرواية حول علاقة صداقة تجمع ما بين الشاعر التشيلي الشهير بابلو نيرودا وشاب بسيط يعمل ساعي بريد.
لم تكن الرواية مجرّد سرد لقصة إنسانية بسيطة، بل تأمّلاً في الأدب والشعر والسياسة والحب. نالت الرواية شهرة عالمية، وتم تحويلها إلى فيلم بعنوان "Il Postino" عام 1994، فحقق نجاحاً كبيراً، ونال جوائز دولية عدة، أبرزها جائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية.
الناقد الأدبي الإسباني خوان خوسيه ميلاس وصف هذا العمل قائلاً: "هذه الرواية هي قصيدة حب مكتوبة بيد روائي. بفضلها، نرى كيف يمكن للأدب أن يغير حياة الإنسان ويمنحه معنى أعمق للوجود".
تتميز أعمال سكارميتا بقدرتها على دمج الأحداث التاريخية والسياسية مع القصص الإنسانية ذات البعد الحميمي، ما يضفي على كتاباته طابعاً خاصاً يمزج ما بين الواقعية السحرية والدراما الاجتماعية.
اعتمد في كتابته على الرمزية والتلميحات السياسية، بالرغم من تأثره بالواقعية السحرية التي اشتهرت في أدب أميركا اللاتينية، إلا أنه استخدمها بشكل خاص ومختلف حين ربطها بالواقع السياسي والاجتماعي، لتوازن كتابته بين جمال السرد وقسوة الأحداث.
المنفى ثيمة حاضرة في أكثر من عملٍ له، وهذا امتداد لتجربة شخصية عاشها وأثّرت به كثيراً، وفق ما نرى في "ليل المستشار". أما روايته "الحياة حلم أو La vida es sueño فهي من أكثر أعماله تأملاً في الفلسفة الإنسانية والحرية الشخصية، بالإضافة إلى "ليل المستشار أو No pasó nada" التي تتناول تجربته في المنفى.
"صوت أميركا اللاتينية"
أنطونيو سكارميتا يتمتع بقدرة نادرة على تصوير التعقيدات البشرية في إطار بسيط، مما يجعل أعماله قريبة إلى القلب؛ هذا ما يقوله الكاتب التشيلي لويس سيبولفيدا واصفاً أدب سكارميتا.
والأكيد أنّ أعماله الروائية نجحت في إيصال صوت أميركا اللاتينية إلى العالم، وهذا مردّه الى أن قصصه تحمل في طياتها الألم والأمل أي أنها تصور الحياة بأوجهها كافّة. إلى ذلك، فإن سكارميتا ليس مجرد كاتب، بل هو شاهد على أحداث بلاده وشعبه، وقد عبّر عن تلك الشهادة بأسلوب مميز يجمع ما بين الواقعية والشاعرية.
أعمال سكارميتا لم تؤثر على القرّاء فحسب، بل أثرت في جيل كامل من الكتاب في أميركا اللاتينية وخارجها. وهو واحد من أبرز كتّاب الإسبانية عالمياً، باعتبار أنّ رواياته تُرجمت إلى لغات كثيرة، وحقّقت نجاحات كبيرة على نطاق واسع.
بالرغم من الغياب، فإن إرث سكارميتا الأدبي سيظلّ حاضراً في المشهد الثقافي العالمي، هو الذي آمن منذ بداياته بأنّ الكتابة ليست مجرد وسيلة للتعبير عن الذات، بل أداة للتغيير الاجتماعي والسياسي.