منذ 50 عاماً، يواصل الشاعر والإعلامي اللبناني عبد الغني طليس حضوره في المشهد الثقافي اللبناني والعربي. وهو حضور تتعدّد أدواته، وتتنوّع أدواره، وتختلف تمظهراته.
من المجلّة والجريدة والإذاعة والتلفزيون والمسرح، إلى النقد والشعر والتلحين فالإعداد والتلفزيون... خلطةٌ ثقافية قلّما اجتمعت في شخصية واحدة، غير انّها اجتمعت في شخصية طليس، وهو ما نراه في سيرته الذاتية "زين ... العابرين"، الصادرة مؤخّراً عن منشورات "زمكان" في بيروت.
نصوص مختلفة
يضع عبدالغني طليس سيرته في 65 نصّاً، يكسر فيها الخطّية الزمنية، ما يجعل ترتيبها داخل الكتاب أقرب للروائية منها للسِّيرية.
النص الواحد قد يشتمل على موضوع واحد أو أكثر، وقد يجمع بين موضوعات عدة لا يربط بينها سوى تمحورها حول صاحب النص، وقد يتمّ تناول الموضوع الواحد في نصوص عدّة غير متعاقبة، وهذه أيضاً خصيصة روائية أخرى.
هذا الترتيب بين النصوص المختلفة أو داخل النص الواحد يضعنا أمام بنية سِيَرية/ روائية مرنة غير جامدة، ويمنح القارئ هامشاً مريحاً وممتعاً للقراءة.
يتناول طليس، في سيرته الموزّعة على 65 نصّاً، الموضوعات الآتية: الأسرة، الدراسة، المغامرات الغرامية، العمل بين نجوم الفن، وغيرها. وهو لا يفعل ذلك وفق منهجية معيّنة، بل ينثر مفردات الموضوع الواحد في غير نص، فلا يقدّم موضوعه لقمة سائغة للمتلقّي، ويترك له جمع هذا النثار من النصوص المختلفة، وتشكيل بورتريه عبد الغني طليس، العائلي والدراسي والعاطفي والفنّي، وفق ما يشتهي، وبذلك يجعل القارئ شريكًا له في تأليف السيرة.
دفء عائلي
على المستوى العائلي، نتعرّف إلى طليس حفيداً وابناً وأخاً وزوجاً وأباً وجدّاً؛ ولكلٍّ من هذه الوظائف العائلية مقاماتها وأحوالها؛ فالحفيد فيه ينعم بأمومة الجدّة وطفا وحنانها صغيراً ويحفظ لها تفهّمها نزواته الغرامية كبيراً، ويُعجب بالجد راجح ووجاهته ورجاحة عقله في حياته، ويرثيه بقصيدة في وفاته.
الابن فيه ينطوي على قدر كبير من الإعجاب بشخصية الأب العسكري رياض، نتلمّسه من خلال تكرار الكلام عنه، ويطوي النفس على حبٍّ كبير لأمّه مريم، يعبّر عنه بشكل مباشر في بعض النصوص.
والأخ فيه يترجّح بين الشعور بالأمان أخاً لتسعة إخوة وأختين اثنتين، وخيبة الأمل بما آلت إليه العلاقات بين الإخوة، وهو ما يعبّر عنه بلغة مداورة تقول بقدر ما تخفي.
والزوج فيه ينصف زوجته لبنى، "ابنة الجنوب الذكية العاقلة التي بلورت ابن بريتال، فتخلّى عن أغصانه اليابسة التي كان يحافظ عليها بلا سبب" (ص 179)، ويعترف لها بالفضل في ترويضه، وهو الحصان البرّي الجموح.
الأب فيه يبدأ باختيار أسماء شعرية لبناته الأربع: مدى، مسا، زمان، وأيام. ويمرّ بشراء الثياب لهن، ولا ينتهي بتنعّمه بحنانهن الذي لا ينفد. أمّا الجد في عبد الغني طليس فحسبنا الإشارة إلى قوله: "أجمل ما حصل من بنات زين ما جاء منهن من البنات والصبيان" (ص 183). وهكذا، ثمة، خلف الملامح الذكورية القاسية لعبد، أبٌ يذوب حناناً على بناته، وجدٌّ يشتعل شوقاً إلى الأحفاد.
تعثّر دراسي
على المستوى الدراسي، يعترف عبد بتأخّره الدراسي وعداوته للدرس وضعفه في الرياضيات ورسوبه في اللغة الإنكليزية وعزوفه عن متابعة الماجستير؛ ففي السادسة من عمره، كانت علاماته متدنّية في جميع المواد بما فيها الرياضة.
وفي "ثانوية الآداب النموذجية"، كان أحد ستة تلاميذ طاف بهم معلّم الرياضيات على الصفوف تشهيراً بعدم حفظهم جدول الضرب. وفي الجامعة، رسب في مادّة اللغة الإنكليزية لسنتين متتاليتين، وعزف عن متابعة الماجستير لأنّ دكتورة مشرفة وضعت أمامه العراقيل تصفية لحساب قديم. هكذا، لا يخجل من الاعتراف بتعثّره الدراسي في أكثر من مرحلة تعلّمية. وهنا، تتبلور السِّيرية في الصدق مع الذات وعدم اجتراح بطولات وهمية.
تعدّد غرامي
وتبلغ السيريّة الذروة، على المستوى العاطفي، حين يجلس عبد نفسه على كرسي الاعتراف بتعدّد علاقاته الغرامية، لا سيّما بعد الشهرة التي نالها جرّاء حصوله على ميدالية الشعر الغنائي في استوديو الفن 1974، وانخراطه في الكتابة في مجلّة "الشبكة".
والمفارق، في هذا السياق، أنّ الشابّ البقاعي الخجول يتنقّل بين النساء، من الجارة المطلّقة الشابّة التي خاض معها مغامرته الغرامية الأولى، إلى الفتاة التي التقى بها عند مدخل التلفزيون واصطحبها إلى كورنيش صوفر، إلى الحبيبة الجديدة التي أخذها إلى الشاليه للاحتفال بحصوله على فرصة العمل الأولى، إلى الأميرة العربية التي استدرجته إلى شباكها وعرضت عليه الزواج، إلى الممثّلة العربية التي أحبّت عينيه الخضراوين، إلى الفتاة السورية التي تفضّل الضرب قبل الجنس، إلى المغنية اللبنانية التي تغنّي بساقيها، إلى غيرهن، ما يجعلنا إزاء دونجوان نسائي، يغتنم ريح المتعة كلّما هبّت.
ومع ذلك، فإنّ لغة التعبير عن هذه المغامرات كثيراً ما تغلّب فيها التلميح على التصريح، وتستخدم المعجم الأدبي أو العسكري أو الفنّي وغيرها، في تصوير مجريات العملية الغرامية.
صداقات وخصومات
على المستوى العلائقي، إذا كانت وسامة عبد وشهرته فتحتا له الأبواب الموصدة، فنسج شبكة علاقات مع بعض الكبار من أهل الفن والصحافة والثقافة، من قبيل: الأخوين رحباني ووديع الصافي ووليد غلمية وسيمون أسمر وسعيد فريحة وجورج ابراهيم الخوري ونزار قباني وغيرهم، وقد عاش بعضها عشرات السنين، فإنّ أنفته وحدّة طبعه، في المقابل، أوقعتاه في مطبّات القطيعة مع بعضهم الآخر لعشرات السنين، لأسباب مختلفة؛ ولذلك، تنقطع علاقته بعبد الحليم كركلّا لتقصير اجتماعي ارتكبه الأخير بحقّه، وبمارسيل خليفة لسؤال إذاعي محرج طرحه عليه، وبزياد الرحباني لسبق صحفي أراد أن يحقّقه، وبجورج خباز لجوابٍ ثقيل ردّ به عليه، وبأسامة الرحباني لمقال كتبه حاول فيه النيل من عبد...
هنا، تتمظهر السِّيرية في التعبير عن "عداوات بدوية"، كما يسمّيها، دون مواربة. وغير بعيد من هذا السياق، وبعد 50 عاماً من الصحافة الفنية والثقافية بين نجوم الفن، يخلص إلى أنّ هؤلاء النجوم "في الأغلب الأعم خوتان"، والطريف أنّه لا يستثني نفسه من هذه الصفة طالما أنه "لم يرحل عنهم لا في 40 يوماً، ولا في 40 سنة"، على حدّ تعبيره.
ويخلص إلى أن الوسط الفنّي معطوب بتضخّم الأنا والانتهازية وكره الآخر والتقلّب والمزاجية وقلة الوفاء وسواها من الأعطاب التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وعَوْدٌ على بدء، "زين ... العابرين" ليس مجرّد سيرة ذاتية فردية بل هو سيرة مرحلة فنّية وثقافية، على امتداد نصف قرن، في الوقت نفسه. هو سيرة ذاتية/ غيرية، موضوعة في إطار روائي، غنية بالوقائع والذكريات، جريئة في تسمية الأشياء بأسمائها، يصوغها صاحبها بلغة حارّة، متينة التراكيب، رشيقة التعابير، متعدّدة المستويات.
وكثيراً ما يوشّحها بتراكيب عامّية وأمثال شعبية، ويضمّنها مفردات محكية، تعكس شخصيته العفوية وتناسب العالم المرجعي الصادرة عنه والمُحيلة إليه.
هذا ما يجعل الكتاب مصدراً للفائدة والمتعة، ويجعل قراءته محفوفة بـ"المؤانسة والإمتاع"، على حدّ عنوان جدّنا أبي حيّان التوحيدي. وبه يثبت عبد الغني أنه زين العابرين، في صناعتي الشعر والنثر.