في روايته "ابتسامة بوذا... ناديت باسمك في الماء" (خطوط وظلال، الأردن)، ينطلق الروائي والأكاديمي المصري شريف صالح من تصوّرٍ يرى الرواية إدراكاً جمالياً للعالم. لذلك، يبدو النصّ، بفصوله السردية المتعاقبة، وارتحالاته الفنتازية، لعبة فنية بالأساس.
الكتابة هنا متحررة من القوالب الجامدة، رحبة في اتساع المبنى والمعنى، تنتفي فيها السببية في الانتقالات الزمانية والمكانية، وتأخذ ما يسمى بشبكة العلاقات النصية أبعاداً متعددة، مركزها السارد الرئيسي الذي يهيمن على فضاء الرواية، ويشكل عوالمها المختلفة.
بنية العنوان
يستحضر العنوان أيقونة خارج النص، والمقصود هنا بوذا، الفيلسوف والحكيم الآسيوي الذي يختلف حضوره في النص باختلاف التركيبة الفنية داخل الرواية.
فمن العنوان الرئيس إلى بعض الالتماسات مع التصوف الآسيوي، يبدو القارئ موجهاً، فكأنّ اللعبة الفنية تكمن في استحضار شخصية بوذا الباكستاني أو رجل الفندق العملاق الذي يلتقيه الراوي البطل، وتنشأ بينهما مجموعة من الحوارات الروائية، والمواقف السردية المتعددة.
هكذا يصبح بوذا الفني في النص خارجاً من- وعن - عباءة بوذا التاريخي، ومتجادلاً معه في روايةٍ تعتمد في جانب منها على سردية التصوف بتنويعاته المحتلفة، حيث الزهد البؤذي، والرغبة في الانعتاق والتحرر عبر النرفانا، فضلاً عن الحب والتماهي مع كل الموجودات في تماس مع التصوف لدينا وتحديداً لدى الشيخ ابن عربي.
وفي العنوان الفرعي"ناديت باسمك في الماء"، تلوح تلك النزعة الصوفية في اللغة، والتي تعزز من هذا المنحى الصوفي الذي لا يهيمن على الرواية، وإن بدا جزءاً أصيلاً منها.
تقنيات النص
ينطلق الاستهلال الروائي من الفضاء الافتراضي، حيث الرغبة تجتاح رجلاً وامرأة يلتقيان عبر الشبكة العنكبوتية بحثاً عن الحب، وتلعب الحوارات السردية دوراً مركزياً في النص، وتتسم بالانسيابية، والتدفق، وتتجاور مع الوصف الذي يحضر عبر الارتحال إلى الفندق العجائبي في خلق البنية الروائية: "انقطعتْ الدردشة من جانبها فجأة. سخافات الإنترنت لا تنتهي. (أكيد انشغلتْ مع أسرتها. لا بد أن زوجها له كرش أكبر من مؤخرته). كانت تسألني: أليس جميلاً أن يخترع لك من يحبك اسماً سرياً، لا يعرفه أي مخلوق سواكما؟!
هو سمّاها تالياً لأن معناه "تفتح الأزهار" وفي اللاتينية "نور الجنة"، بينما سمّته هي مار، أما لماذا مار، فلأنه "اسم يشبه القديسين. ستكون قديسي الجميل الذي يبارك كل خطاياي".
ليست عين الكاميرا وحدها هي ما يميز الرواية، باعتبار أننا نرى الوقائع والأحداث عبر عيني الراوي البطل، لكنّ المنظور أيضاً في اختيار الوقائع والأحداث، في استرجاعات الزمن من قبيل استعادة الفنانة كاميليا، في الفصل الثاني من الرواية، وحكايتها مع الملك فاروق، وسقوط طائرتها.
لا يفارق الحس الساخر الرواية، فالمدير لديه سكرتيرتان، إحداهما طيبة (أم مايكل) كما أسماها الراوي البطل، والأخرى (مروة)، واحدة للعمل، والثانية للمتعة.
والمدير نفسه عبثي جداً. رجل الضفادع "مستر كيرميت"، الذي يحول شركة استصلاح الأراضي إلى أرض الضفادع، لنكتشف أنه يصدرها للخارج. مستر كيرميت الذي يعود في نهايات الرواية بوصفه أحد الأشخاص المترددين على الفندق: "مدير شركتنا نطلق عليه تهكماً "مستر كيرميت". كان مهووسًاً بحب الضفادع. أي أرض نستصلحها كان يجبرنا على إلقاء عشرات الشراغيف فيها. لا يبدو طيباً وتلين ملامحه إلا عندما يرى شرغوفاً وليداً. تعتبر الضفادع أكثر الكائنات مرحاً عند القفز والتسلق ومد لسانها الطويل في الفراغ لالتقاط فريستها في أقل من ثانية".
بناء الرواية
تنهض الرواية على تيمة الارتحال القلق الذي يبدأ واقعياً وينتهي غرائبياً، وفي المسارين الرئيسيين ثمة زخم من الشخوص والحكايات، يعززها جدل خطي السرد الأساسيين، الواقعي في المفتتح، والفنتازي في الخطوط المتنامية للحكاية. يلعب الخط الواقعي مثل إطار سردي، والخطوط الفنتازية تمثل مسارات الرواية، وتخضع فضلاً عن تقنيتي الحوار، والوصف، وعين الكاميرا إلى ما أسميه التخييل المعرفي، حيث الانطلاق من المعرفة المعلوماتية إلى الخيال المحض.
وفي الرواية أيضاً ثمة استلهام للغناء، وتضفيره في البناء السردي، والاتكاء عليه أحياناً، حيث تحضر أم كلثوم في البداية، وتكون جزءاً من حوارات السرد، مثلما نرى حضوراً للشعر الصوفي، وغناء الشيخ ياسين التهامي.
هذا فضلاً عن التماس مع السينما بحضورها المصري والعالمي، من قبيل سعاد حسني، وراسل كرو، والانفتاح على الفنون البصرية، واستعمال تكنيك الرواية داخل الرواية كجزء من لعبة السرد. فالراوي البطل يتم تقديمه بوصفه أنه يكتب رواية عن سعاد حسني، وهي مزيج من الواقعي والمتخيل أيضاً.
حكايات فرعية
يعج النص بالتفاصيل السردية، التي تشكل حكاياته الفرعية، من قبيل شرطة الإيمان في الطائرة (تالوشا ورفيقاه)، والذين يخبرونه أن جهاز كشف الأمتعة قد كشف أن لديه مشكلة في الإيمان، وتكتسب الحكاية الفرعية هنا - على طرافتها - بعداً أعمق، حين تُسائل بطريقة فنية إشكالية التطرف الديني، والتدخل في حياة الآخرين.
وهناك أيضاً مرويات تخص التفكير في المصير الإنساني عبر جمل ذات طابع فلسفي وحكمي، تتناثر داخل المتن الروائي الذي يعتمد كذلك على مزاوجة التفاصيل الصغيرة مع استدعاء الكليات وتفتيتها من خلال رؤيتها من منظور ذاتي.
احتاجت الرواية إلى أن يحكي بعض الشخوص عن أنفسهم، يحكون الحكاية المخبوءة من وجهة نظرهم، وهذا الاقتراح الجمالي كان سيسهم في اتساع المدى داخل النص، والخروج من سطوة الراوي المسيطر على مقدرات الحكاية منذ المفتتح وحتى الختام، وقد يعزز من المنطق الديموقراطي للحكاية، خاصة أن النص يحتفي بالتنوع، ويتعامل مع العالم بوصفه حالاً من الموزاييك الخلاق مهما اتسم بالقسوة، والشراسة، والجبن.
في هذه الرواية، ثمة كتابة ممتعة هنا، وثمة كاتب حقيقي يعاين الفن من زاوية اللعب الجمالي مع عالم مراوغ، وعبثي، نسبي، ومتغير باستمرار.