يقوم السرد في رواية عمار علي حسن الجديدة "احتياج خاص" على أكتاف فكرة مبتكرة، علاوة على اختلافها من الناحية الفنية حيث اعتمدت بنيةً أو معماراً روائياً غير تقليدي. والفكرة هي وجود حلم ليل متصل، يصنع لشخص فقير مقهور حياة أخرى، ينعم فيها بالثراء والعزة والسكينة. أما البناء فيوزع الرواية على أقسام لا تمثل فصولاً إنما الحالات التي يأخذها الإنسان قبيل النوم وخلاله وأثناء الخروج منه وفي اليقظة التامة.
إن رؤى النوم وأحلامه تختلف لدى كل شخص من ليلة إلى أخرى إلا لدى بطل هذه الرواية، موظف التموين النزيه، الذي ما أن يدخل إلى النعاس حتى يُستكمل الحلم من حيث انتهى الليلة السابقة. بذا يصبح النوم وحده هو ما ينقذه من البؤس والتعاسة في ظل الفقر، ونكد الزوجة الطامعة، وقهر الوظيفة. يبدو هذا نوعاً من "الفصام" يختلف عن المتعارف عليه بوصفه مرضاً عقلياً ونفسياً، إنه فصام حميد، يتمنى كثيرون أن يصيبهم.
في الرواية، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، ما يسحبها من هذه الحالة الخاصة جداً كي تكون أمثولة عامة في تعبيرها عن انكسار حلم جيل في تغيير أوضاعه إلى الأفضل.
بطل الرواية إنسان بسيط، سار في الشوارع هاتفاً مع الغاضبين المنادين بالعدل والحرية، إلا أن الواقع الغارق في القهر والفساد لم يلبث أن خذله بقسوة، ولم يجد متنفساً له إلا في رؤى الليل وأحلامه، لعلها تخفف آلامه.
استيقظ ذات يوم ليجد الحلم المتواصل قد ضاع منه، فبدأ رحلة بحث عنه ملهوفاً على حافة الجنون، وراح يجرب أشياء كثيرة، كي يستعيده، لكن كل هذا ذهب سدى، فضاع هو في الشوارع خلف حلمه العصيّ. هنا يأتي دور شريكه في الكفاح، الذي تعرف عليه في ميدان التحرير خلال الثورة، ليحاول أن يعثر على الرجل الضائع، لاسيما بعد أن قرر كتابة رواية عنه، ومع بحثه يُكمل فصول روايته، ويكتشف الكثير عن صاحب الحلم، فنصبح هنا أمام رواية تحيط بها رواية، كما الدرة في الصدفة.
يبدو بطل الرواية ليس فردًا إنما هو رمز للذين تطلعوا إلى تغير أحوالهم القاسية ثم استيقظوا على كابوس مخيف، لكن الحدث العام فيها جاء خفيفاً شفيفاً في خلفية السرد، يعطيه إطاراً للعمق والفهم والتأويل، لكن لا يقتحمه أو يجور عليه.
لنعد إلى شرح الفكرة الأساسية لهذه الرواية، التي تقع فيما يربو على مئتي صفحة من القطع المتوسط، لنجد أنفسنا أمام بطل بسيط، من الطبقة الشعبية المطحونة، فهو موظف تموين فقير نزيه، يعيش في منامه حلماً متواصلاً، لا مثيل له في العالمين، يصنع حياة مختلفة له يحمل فيها الاسم نفسه لكنه يعمل أستاذاً لمادة علم النفس في جامعة القاهرة. حياة هذا الموظف في الحلم، حيث رغد العيش ونعومته، تناقض تماماً حياته الواقعية البائسة.
وحين تقوم ثورة يناير يسارع الموظف فيحكي حلمه الغريب للشباب، ليجعلوا العيش في مصر يتطابق مع حلمه، وليس مع واقعه، لكن حين يعود إلى النوم يجد حلمه قد ذهب، فيكافح لاستعادته، فتتوالى المحاولات، لكنها لا تكون بعيداً عن رجال الأمن، الذين يتابعونه، ليضمنوا عدم التفات الناس إلى هذا الحلم الغريب والإيمان به ثم تبنيه، والعمل على تحقيقه في الواقع المُعاش.
يبدو البطل أشبه بمن يعاني فصاماً، لكنه فصام حميد على أي حال، فهو يعيش حياة موازية رغدة، لكنها ليست في الصحو، كما هي الحال بالنسبة لمن يعانون من مرض الفصام العقلي المعروفة أعراضه، إنما هو فصام في المنام، من خلال هذا الحلم الغريب المستحب.
تقوم الرواية على بنية مختلفة وصعبة، إذ تقسم حياة بطلها، وبذا تتوزع فصولها، على حالات خمس هي (ما قبل النوم ـ غشاوة ـ نوم ـ صحو ـ ما بعد الصحو).
في الوقت نفسه تبدو كأنها رواية داخل رواية، إذ أن صديق البطل، يبدأ في كتابة رواية عنه حين يختفي بعد أن يضيع منه الحلم، وأثناء الكتابة يبحث بالطبع عن معلومات يستوفي بها شخصية صديقه، فنعرف من خلال الجهد الذي يبذله في البحث، ثم الكتابة، المزيد من المعلومات عن حياة هذا البطل.
أسلوب مغاير
إن كانت تختلف هذه الرواية في بنيتها عن بقية روايات عمار السابقة، فإنها تحتفظ بأسلوبه الذي يعتمد على سرد متدفق، يحتفظ بشاعرية اللغة وسلاستها، محاولاً الوصول إلى المعنى دون إفراط في ثرثرة، أو إشباع للسرد، أو الاغراق في توالد حكائي على ضفاف الحكاية المركزية التي تمثل العمود الفقري لهذا العمل الأدبي.
عمار علي حسن، هو روائي ومفكر صدرت له ثلاث عشرة رواية، وسبع مجموعات قصصية، وقصة واحدة للأطفال، إضافة الى ستة وعشرين كتابًا في الثقافة والاجتماع السياسي والتصوف، وأعمال أخرى في المسرح والشعر، وكتبت عنها دراسات ومقالات نقدية كثيرة، وترجمت بعض كتاباته إلى لغات عدة، وحصلت على جوائز عديدة.
رغم غزارة إنتاجه، ومنه الروائي، فإن رواية "احتياج خاص" تبدو مختلفة في مسار الكاتب، الذي طالما رأيناه يقول في حواراته الأدبية والثقافية إنه حريص على تنوع موضوعات رواياته. وما يعطي الرواية الأخيرة مذاقاً خاصاً أيضاً، أن كاتبها كان في طليعة الذين خرجوا ثائرين، وعاش الأحداث بتفاصيلها، لكنه يختار هنا زاوية صغيرة في حجمها، كبيرة في معناها، ليعالج بشكل فنيّ الجانب الآخر من الثورة، وهو جانب من لحم ودم، دون شك.