النهار

رباعية فان غوخ في خمسينية متحفه (3 من 4)
هنري زغيب
المصدر: بيروت- النهار
سنة 1973 انتهى العمل في بناء متحف الرسام الهولندي العالَمي فان غوخ (1853-1890)، وجاء تحفة معمارية جميلة من حيث شكل البناء، في "ساحة المتاحف" جنوبي أَمستردام. وبانتهاء حملة تجميع لوحاته من المتاحف العامة والمجموعات الخاصة، فتح "متحف فان غوخ" أَبوابه للزوار والسياح سنة 1974.
رباعية فان غوخ في خمسينية متحفه (3 من 4)
لوحة "صبيَّة في الغابة"
A+   A-

سنة 1973 انتهى العمل في بناء متحف الرسام الهولندي العالَمي فان غوخ (1853-1890)، وجاء تحفة معمارية جميلة من حيث شكل البناء، في "ساحة المتاحف" جنوبي أَمستردام. وبانتهاء حملة تجميع لوحاته من المتاحف العامة والمجموعات الخاصة، فتح "متحف فان غوخ" أَبوابه للزوار والسياح سنة 1974.

احتفاء بخمسينية المتحف (1974-2024)، أَكتب هذه الرباعية عن أَبرز أَعمال فان غوخ في متحفه.
في الجزء الأَول سردتُ قصة المتحف وتجميع اللوحات، مع اثنتَين من لوحات فان غوخ فيه. وفي الجزء الثاني عرضتُ لمحةً عن أَربع لوحات أخرى.
في هذا الجزء الثالث لمحة عن ست لوحات أُخرى في متحف فان غوخ.

7. السجناء في حلقة دائرية
وضَعها سنة 1890، نقلًا عن لوحة الرسام الفرنسي الرومنطيقي غوستاف دوريه (1832-1883). وهو رسم فيها مجموعة سجناء يمشون مصطفين في حلقة دائرية داخل باحةٍ مغْلقة عاليةِ الجدران في سجن قاتم، تحت نظر ثلاثة رجالٍ اثنان منهم يعتمران قبعة. وفي تركيب اللوحة تعمَّد فان غوخ إِبراز التضادّ في التعبير بين السجناء البائسين وحيادية الرجال الثلاثة، كما تعمَّدَ إِبرازَ أَحدِ السجناء بشَعر أَشقر، متباطئًا في مشيته كما توَّاقًا إِلى الحرية، ربما كان به يقصد شكْله وهو سجين. كما رسم سور السجن عاليًا ليزيد من الشعور بالأَسر الخانق، لكنَّ فراشتين صغيرتين عاليتين في فضاء الباحة قد يكون رمى بها إِلى بصيص خفيٍّ من الأَمل. وكونُ هذه اللوحة مستوحاةً من عمل غوستاف دوريه، تدلُّ على شعور فان غوخ بالوحدة والانعزال خلال انحباسه في المأْوى سنة 1890، قبل أَسابيع من انتحاره المفاجئ وموته الحزين.



8. آخر النهار
رسمها فان غوخ سنة 1890، مستلهمًا إِياها من تخطيطِ رسمٍ وضعه الرسام الفرنسي جان فرنسوا مييِّيْه (1814-1875)، وهي بين 150 لوحة وضعها في السنة الأَخيرة من وفاته (تموز/يوليو 1890)، ذلك أَنه رسم في بضعة أَشهُر 23 لوحةً مستلمًا إِياها من رسوم أَو مخططات رسومٍ بالأَبيض والأَسْوَد وضعَها مييِّيْه. غير أَنه لا يعتبر عمله مجرد "نسْخ" أَو "نقْل"، بل كان يعتبرها "ترجمةً" بالأَلوان مشاعرَ ميِّيْيه. وهو رسم في اللوحة فلَّاحًا متعبًا يستريح في نهاية يوم طويل مرهِق. وجاءت اللوحة ساطعة الألوان أَكد فيها فان غوخ روح الحياة الريفية.

 9. رسم آدلين رافو
رسمها فان غوخ سنة 1890، وكان انتقل في أَيار/مايو 1890 إِلى أُوفير سورواز، وفيها رسم الصبية آدلين في الثالثة عشرة وهي ابنة مديرة الحانة. ومع أَن آدلين لم تكن ترى أَن اللوحة تُشبهها، فإِن صورة فوتوغرافية لها تُثْبت شبَهًا دقيقًا لها بين الصورة ووجهها. ولم يكن هَمُّ فان غوخ أَن يُبْدع في نقْل الشبَه الدقيق بل في إِبراز نفسية الشخصية. لذا، من الأَلوان الزاهية وضربات الريشة (الرُقشات)، نجح في إِظهار المظهر الجسدي. وهذه اللوحة، أَنهاها فان غوخ في الأَسابيع الأَخيرة من حياته، وتُثْبت أَيضًا وأَيضًا عمل فان غوخ في إِبراز الملامح الداخلية على وجه الشخص الذي يجلس أَمامه ليرسمه.

10. تَفَتُّحُ زهر اللوز
رسمها فان غوخ سنة 1890. وهو موضوع كان قريبًا إِلى قلبه لأَنه يَرمز إِلى الولادة الجديدة بوصول الربيع. فزهر اللوز، الذي ينعقد باكرًا في أَول الموسم، علامةُ الولادة الجديدة، ما يجعل لوحته ذات مغزى خاص لأَن فان غوخ رسمها احتفاءً بولادة ابن شقيقه تيو، وهو سُميَ فنسنت وِلْهالْم، ما أَثَّر عميقًا في الرسام حتى وضع لوحته عن ولادة زهر اللوز، خصوصًا باللون الأَزرق في خلفية اللوحة مع تواشيح بمختلف الظلال التي تعطي الشعور بالفضاء الطبيعي. وفي تركيب اللوحة ما يُظْهرُ اندهاش فان غوخ بأَعمال الفن الياباني، كما يَظهر في الخطوط العريضة والكثيفة وإِظهار الأَغصان في مقدمة اللوحة مرئيًّا إِليها من تحت كأَنها مأْخوذة مرميةً على الحشيش. وهذا التركيب يعطي المتلقي الشعور بالحميمية مع الطبيعة، وهي حالة تتردد غالبًا في أَعمال فان غوخ. وكانت هذه اللوحة من أَبرز اللوحات التي اقتَنَتْها الأُسرة بعد وفاة الرسام، بقيَت معلَّقة فترة طويلة في بيت شقيقه تيو وزوجته جوانا التي حافظت عليها (مع سواها) بعد وفاة زوجها تيو، ولم تعرضْها للبيع. لذا بقيَت لديها، وبعد وفاتها احتفظ بها ابنُها الوحيد فنسنت حتى أَصبح متحف فان غوخ جاهزًا فانتقلت إِليه ولا تزال فيه بين كنوز الأُسرة من أَعمال الرسام. ومن اللافت في قصة هذه اللوحة وما فيها من شعور داخليّ عميق، أَن فان غوخ وضعها مباشرة بعد إِبلاله من علَّة طويلة، لكن نقاهته لم تَطُل لأَنه بعد رسْمها مباشرةً دخل في فترة مرض نفسي وذهني بالغ أَعاقه عن المواصلة في رسم هذه المجموعة الجميلة من زهر اللوز. ولم يبقَ من حلْمه إِلَّا هذه اللوحة التي تنضح حياةً وطبيعةً وتجديدَ ربيع.

11.  النائمة عاريةً
سنة 1886 وصل فان غوخ إِلى باريس، وانخرط في أَجواء الانطباعيين، واتخذَت لوحاته منحًى آخرَ غيرَ الذي كان له قبلذاك. وفي لوحته "النائمة عاريةً" منحى واقعي، فلم يعُد للعري في لوحته خيالٌ جمالي بل واقعٌ منسوخ. وهو وضع ثلاث لوحات شبيهة: زيتيتَين ورسمًا بالقلم، إِنما للمرأَة ذاتها التي يبدو لم يوفَّق بسواها كـ"موديل". والأَرجح أَنها آوغوستينا سيغوتوري صاحبة المقهى الذي كان يرتاده وكان على علاقة وجيزة معها.

12.  صبيَّة في الغابة
رسمها سنة 1882. وكان فترتئذٍ قادرًا، للمرة الأُولى، على شراء أَنابيب الأَلوان، بفضل دفعةٍ مالية أَسداها له شقيقه تيو. وهذه اللوحة ("صبيَّة في الغابة") أَول لوحة وضعها بعدذاك، ويبدو فيها فرحُهُ في "جذب المتلقِّي إِلى مشاركته مشاعرَه في جعله يتلمس حفيف الأَوراق في الغابة"  كماجاء في رسالته إِلى شقيقه تيو (20آب/أغسطس). وما يلفت في هذه اللوحة، كما في سواها، أَن فان غوخ غالبًا ما كان يرسم والقماشة على ركبتيه لا على الـمَلْوَن، من هنا تدقيقُه على أُمور أُفقية أَمامه/ كامتلاء الأَرض تحت أَشجار الحور بأَوراقها المتناثرة.

الحلقة المقبلة: الجزء الرابع الأَخير - 5 لوحات أَخيرة

اقرأ في النهار Premium